Times of Egypt

«الرصافي» و«شوقي» و«التجار»

M.Adam
وجيه وهبة 

وجيه وهبة

كان حفلًا فخيمًا، اكتظت فيه «دار الأوبرا الملكية».. بحشد من المصريين، ووفود من كافة أرجاء العالم العربي، في اليوم التاسع والعشرين من شهر أبريل عام 1927؛ تكريمًا ومبايعة للشاعر «أحمد شوقي» أميرًا للشعراء. في ذات اليوم أقيم احتفال في «بغداد» بهذه المناسبة، وألقى فيه المفكر الشاعر الكبير «معروف الرصافي» (1875 ـ 1945) قصيدة.. مشيدًا بشوقي ومقرًا له بالفرادة، وما أعظم وأكثر القصائد التي قيلت فى «شوقي» في ذلك اليوم. ولكن الأهم من ذلك، أن «الرصافي» اتخذ من هذه المناسبة، ومن قصيدته.. فرصة للدفاع عن حرية الرأي في «مصر»؛ النموذج الرائد.. معبّرًا عن خيبة أمله، وذلك بعدما لاقى «علي عبد الرازق» و«طه حسين» ما لقياه.. من عسف وظلم، وذلك بعد نشر كتابيهما: «الإسلام وأصول الحكم»، و«في الشعر الجاهلي». فلا تفخر أمة بتكريم الشعر، إذا لم تكن هناك «حرية فكر».

قال الرصافي.. في قصيدته:

وإني لأهوى الحق كالطِيب ساطعًا …  كالريح هبّابًا وكالشمس ظاهرا

. . .

وتكره نفسي أن أكون مخادعًا

لأدرك نفعًا أو لأدفع ضائرًا

ومن أجل مقتي للمخانيث أنكرت

يدي أن تُحلّى في الجنان أساورا

وما العجز إلا أن أكون مُكاتمًا

إذا ما تقاضتني العلا أن أجاهرا

. . .

يقولون لي في مصر للعلم نهضة

تُفَتِّق أذهانًا وتجلو بصائرا

. . .

وإن بها للعلم قدرًا وحُرمة

وإن بها للحق عونًا وناصرا

ألم ترَ أن القوم في كل محفِل

بها رفعوا للقائلين المنابرا

وقد ضربوا وعدًا لتكريم شاعر

تملك صيتًا في الأقاليم طائرا

هو الشاعر الفحل الذي راح شعره

بإنشاده في البرّ والبحر سائرا

فلو قلتَ بعض الشعر في يوم حفلهم

تشدّ به منا لمصر الأواصرا…..

ألا أن شوقي شاعرٌ جد شاعر

يفوق الأوالي بل يبزّ الأواخر….

فلا عجب من أهل مصر وغيرهم

إذا عقدوا منهم عليه الخناصرا

بنى لهم مجدًا رفيعًا بشعره

لذا جعلوا حسن الثناء وكائرا

ولكنني قد أنظر الحفلة التي

تقام له ذا اليومَ في مصر ساخرا

ثم نأتي إلى بيت القصيد، إذ يقول «الرصافي»:

إذا احتفلت مصر بشوقي فمالها

تقيم على الأحرار في العلم حاجرا

فقد أسمعتنا ضجَّة أمطرت بها

عليًّا وطه حاصبًا متطايرا

فما بال هذا عُدَّ في مصر مارقًا

وما بال هذا عُدَّ في مصر كافرا

إذا لم تكُ الأفكار في مصر حرّة

فليس لمصر أن تكرّم شاعرا

أيُرفع قدْر العلم ينطق ناظمًا

ويوضع قدر العلم ينطق ناثرا

ويُختص بالتبجيل من جاء منشدًا

ويُقذَف بالتجهيل من جاء فاكرا

ألا أن هذا الشعر ليس بطائل

إذا كان عمّا يبلغ العلم قاصرا

كما أن هذا العلم ليس بنافع

إذا لم تكن فيه النفوس حرائرا

وتكريم ربّ الشعر ليس بمفخر

لمن كان عن حرّية الفكر جائرا

وإلاّ فعصر الجاهلية قبلنا

له السبق في تكريم من كان شاعرا

■ تحت عنوان «حرية الرأى في مصر»، كتب محرر جريدة «السياسة الأسبوعية» (وأظن أنه الدكتور محمد حسين هيكل) مقالًا يطمئن فيه «الرصافي» على حرية الرأي في «مصر» يقول فيه:

«.. أولئك الذين رفعوا عقيرتهم لمناسبة كتاب «الإسلام وأصول الحكم»، والذين لم يستحيوا أن يعيدوا لنا في القرن العشرين ذكرى محاكم التفتيش. وأولئك الذين حسبوا ظهور كتاب «في الشعر الجاهلى».. فرصة ليرفعوا من جديد عقيرتهم، بمثل ما كانوا قد رفعوا من قبل،.. هؤلاء وأولئك جميعًا، إنما هم بيئة رجعية في مصر؛ مثلهم مثل الرجعيين في كل بلد…».

«وليست هيئتهم (العلمية الكبرى) تستطيع أن تدعي تمثيل الفكر المصري العصري، ولا تمثيل الرقي المصري.. السائر سير القافلة تترك الكلاب كلها تنبح».

«إن علي عبد الرازق اُنتشل من بيئتهم و(زمرتهم).. غير نادم ولا آسف».

«إن أولئك الذين يتطوعون بتكفير الناس في مصر.. اتجارًا بالدين، واحتفاظًا بما يحسبونه – واهمين ـ أنه لهم مقام مقدس، وأنها لهم ‹رئاسة عليا›، إنما هم لا يمثلون إلا أنفسهم، وإنما هم رجعيو مصر.. المسيئون لسمعتها لنهضتها الفكرية.. لا يُعتد بهم كمًا وكيفًا».

■ ولو عاش محرر «السياسة» إلى يومنا هذا، لأدرك كيف أصبحت هذه «القلة الرجعية».. «المتاجرة بالدين»، مهيمنة على حركة المجتمع، وتسارعها إلى الخلف.

«الرصافي» صاحب البحث المعمق الجريء: «الشخصية المحمدية»، كان شاعرًا مسكونًا.. ومهمومًا بحرية الفكر، لذا لم تكن هناك تهمة.. إلا ورُمي بها؛ فما أكثر أعداء «التفكير» من محترفي «التكفير».

ولنتأمل بعضًا من تأملاته وتساؤلاته عبر أشعاره:

متى تطلق الأيام حرية الفكر

ينشط فيها العقل من عقلة الأسر

ويصدع كلٌّ بالحقيقة ناطقًا

ويترك ما لم يدر منها لمن يدري

أرانا إذا رُمنا بيان حقيقة

عُزينا معاذ الله فيها.. إلى الكفر

جهلنا أشدّ الجهل آخر عمرنا

كما قد جهلنا قبله أول العمر

هما ساحلا بحر من العيش مائج

ففي أيّ أمر نحن بينهما نجري

ومن أين جئنا أم إلى أين قصدنا

وفى أيّ ليل من تشككنا نسري

. . .

وقد قيل إن الروح تبقى فهل لها

عروج إلى الأعلى إلى الأنجم الزهر

وهل تعرف الجثمان بعد عروجها

فتمكثَ منه في السماء على ذُكر

إذا أرضنا كانت سماءً لغيرها

فما من عروج بل نزول إلى القمر

وهل عرجت أرواح من في عطارد

إلى الأرض أم هذا الكلام من الهذر….

لعمرك ما هذي الحياة وما الذي

يُراد بنا فيها من الخير والشر…

على أننا نمضي إلى أمر ربنا

كما أننا آتون من ذلك الأمر.

نقلاً عن «المصري اليوم»

شارك هذه المقالة