Times of Egypt

الرأي العام بين العلم والسياسة

M.Adam
مصطفى كامل السيد 

مصطفى كامل السيد 

قفزت قضية المعرفة بالرأي العام.. كحجة رئيسية في النقاش الذي ما يزال محتدماً في مصر، حول قانون إيجارات المساكن. 

الذين ينتقدون هذا القانون.. يطرحون العديد من الحجج؛ وفي مقدمتها ما يعتقدون أنه موقف الرأي العام منه رفضاً له. بينما يرى آخرون أن هذا القانون هو أحد عناصر برنامج للإصلاح الاقتصادي، وأن رئيس الدولة الحريص على الإصلاح.. يمكنه أن يخاطر بشعبيته، كثمن ضروري لتحقيق هذا الإصلاح. أصحاب وجهة النظر الأولى يفترضون أن أغلبية المواطنين تؤيدهم، وقد لا يرى ذلك أنصار هذا القانون سنداً لما يقوله خصومه، لأنهم لم يشيروا إلى استطلاع للرأي العام.. يثبت صحة ما يقولون.

مثل هذه الخلافات حول موقف الرأي العام.. من السياسيين والسياسات، كانت الدافع وراء انطلاق جهود قياس الرأي العام على أساس علمي، وهي التي اتخذت صوراً عديدة، كانت بداياتها في الولايات المتحدة الأمريكية في سنة 1824، ثم تسارعت في ثلاثينيات القرن الماضي، وتعددت مجالاتها. ثم انتقلت منها إلى المملكة المتحدة والدول الأوروبية، والعديد من دول العالم الأخرى.. منذ النصف الثاني من القرن العشرين. وتصدَّى لبحث قضايا القياس هذه اثنان من أبرز المهتمين بدراسات الرأي العام في مصر؛ وهما الدكتور ماجد عثمان، ود. حنان جرجس؛ الأول هو الرئيس التنفيذي للمركز المصري لبحوث الرأي العام (بصيرة)، وتعاونه د. حنان كنائب له. 

وقد وظفا خبرتهما في إدارة أبحاث الرأي العام في مصر.. من خلال هذا المركز وقبله، وطرحا أفكارهما في كتاب.. يمثل إضافة حقيقية لمكتبة العلوم الاجتماعية في الوطن العربي، ودليل عمل للمنشغلين بهذه القضايا، عنوانه: قياس الرأي العام بصيرة المجتمعات وصُناع السياسات. يضم الكتاب اثني عشر فصلاً، ويحيط بكل جوانب قياس الرأي العام.. من حيث المفهوم ومجالات الاستخدام، وأساليب اختيار العينات، وأخطاء استطلاعات الرأي العام، وأساليب القياس المباشرة والافتراضية والكيفية، ونشر نتائج استطلاعات الرأي العام. وتطرقا كذلك لعلاقة استطلاعات الرأي العام بالإعلام، والاعتبارات الأخلاقية والقانونية.. لإجراء هذه الاستطلاعات، وختما الكتاب بشرح انتقال قياس الرأي العام من النظرية إلى التطبيق. وسأعرض بعض القضايا التي تهم قارئ هذه الصفحة.. فيما تناوله هذا الكتاب.

ما الرأي العام؟ 

ما درجة عمومية الرأي العام؟ ما المقصود تحديداً بالرأي العام؟ هل هو رأي جميع المواطنين؟ أم أغلبيتهم؟ يعرف الكتاب الرأي العام على أساس ثلاثة معايير: أولاً: أنه رأي أو موقف بالقبول أو الرفض أو بالحياد، فهو أمر موضع تعبير علني. ثانياً: أنه لا يقتصر على عدد محدود من الأفراد وإنما يمثل أغلبية. ثالثاً: أنه يدور حول قضايا عامة وفي الغالب قضايا سياسية. هذا بالفعل هو التعريف المأخوذ به في قياسات الرأي العام، ولكن نظراً لأن قياس الرأي العام لا يمكن أن يشمل كل المواطنين، فهو يتم باختيار عينة.. يفترض أنها تمثل خصائص المجتمع ككل. نتيجة قياس آراء هذه العينة، هي التي يمكن تعميمها.. بافتراض أن هناك تماثلاً بين الخصائص التي أخذت في الاعتبار عند اختيارها، وخصائص آخرين لم يكونوا فيها. لكن ماذا عن المواطنين الذين ليست لهم آراء. هم ليسوا من لا يعرفون عن الموضوع، ولكنهم لا يهتمون به أصلاً، وهؤلاء قد يشكلون نسبة كبيرة من المواطنين.. خصوصاً بين الفقراء أو الأقل تعليماً أو الذين لا يعتقدون بمصداقية العملية السياسية. ألن يكون الرأي العام – مهما كان اجتهاد تصميم العينة – هو في النهاية رأي الأقلية المهتمة والتي لها موقف؟

مدى مصداقية قياس الرأي العام 

ويذكر الكتاب حالات صارخة.. لإخفاق قياسات الرأي العام في التنبؤ بالمرشحين الذين سينجحون في الانتخابات.. في كل من الولايات المتحدة وبريطانيا. وتشرح مراكز الاستطلاع هذا الإخفاق بمسائل فنية؛ تتعلق بتصميم الاستمارة التي وجهت لأفراد العينة، أو بأخطاء في اختيار العينة. ولكن ما أشارت له الفقرة السابقة.. من وجود قطاع من المواطنين لا يهتمون في العادة بمثل هذه الاستطلاعات، وهم يختلفون عمن يجيبون بأنهم لا يعرفون، أو لم يحددوا اختيارهم بعد، ولكنهم في العادة هم من لا يستجيبون إطلاقاً، ويعتبرون أن اللعبة الانتخابية لا تهمهم أصلاً، وليس لهم تأثير عليها. 

قد يعود إخفاق استطلاعات الرأي إلى أن أفراد هذه الشريحة.. قد يغيرون موقفهم في آخر لحظة، ويشاركون في الانتخابات، ونظراً لأن نمط تصويتهم لم يكن معروفاً مسبقاً، فإن قرارات اللحظة الأخيرة تقلب تنبؤات استطلاعات الرأي. تفسير آخر، هو أن نموذج التصويت الذي افترضته استطلاعات الرأي.. قد لا ينطبق على هذه الشريحة، فهم يستجيبون لأسئلة الاستطلاع.. مسترشدين بما قد لا يسبب لهم الخجل وسط المحيطين بهم، ولكنهم يتخلون عن هذا الخجل.. عندما يجدون أنفسهم وراء الستار في مراكز الاقتراع؛ فيسببون الحرج لخبراء استطلاعات الرأي.. الذين بنوا نماذج لاختيارات الناخبين، لا تأخذ هذه العوامل في الحسبان. هذه الملاحظة لا تتعلق باستطلاعات الرأي في البلدان ذات الخبرة الواسعة، ومراكز استطلاعات الرأي المرموقة عالمياً فحسب، ولكنها تتعلق بكل دول العالم، وخصوصاً تلك التي لم تعرف نظم الانتخابات الحرة النزيهة.. المفتوحة للجميع على قدم المساواة. فهؤلاء الذين لا يستجيبون لاستطلاعات الرأي – أياً كان موضوعها في مصر – يشكلون نسبة كبيرة من أفراد العينة المتوخاة.

جدوى استطلاعات الرأي العام 

تعدد المجالات التي تغطيها استطلاعات الرأي العام؛ فهي لا تقتصر على التعرف على اتجاهات الناخبين نحو المرشحين المختلفين، ولا على ما يحدث قبل الانتخابات. فبعضها يجرى بسؤال المواطنين والمواطنات عند الخروج من مراكز الاقتراع، كما أنها تشمل التعرف على مواقف المواطنين من سياسات الحكومة، وعلى نوعية القيم التي يسترشدون بها في سلوكهم، وعلى نظرتهم للدول الأجنبية.. وما إذا كانوا يصنفونها صديقة لبلادهم أو عدوة لها. 

وعلى عكس ما قد يتصوره البعض، فاستطلاعات الرأي العام ليست كلها حسابات بالأرقام؛ فبعضها يتم أيضاً بأساليب كيفية.. مثل الحوار في مجموعات صغيرة توصف بالبؤرية، أو من خلال المقابلات المعمقة، كما لا تقتضي كلها اتصالاً مباشراً بين من يوجه الأسئلة، ومن توجه له الأسئلة. فقد أتاحت تكنولوجيا المعلومات وسائل جديدة لإجراء هذه الاستطلاعات، ففضلاً عن البريد العادي، يمكن أن تتم هاتفياً من خلال التليفون الثابت أو المحمول، ومن خلال البريد الإلكتروني، وكذلك من خلال منصات التواصل الاجتماعي.. مثل فيسبوك وتويتر وإنستجرام، بل وابتدعت بعض المؤسسات استمارة تضعها على مواقعها، وتطلب من مستخدمي إحدى هذه المنصات.. إجابة هذه الأسئلة والرد عليها إلكترونياً، وسهلت بعض المنصات مهمة تبويب الإجابات وتحليلها.. من خلال برامج خاصة. 

ومع هذا التعدد في المجالات – التي تغطيها استطلاعات الرأي – فلا شك في أهميتها للحكومات وللمجتمع، وليس فقط للأكاديميين. يمكن للحكومات الاستفادة من استطلاعات الرأي.. للتعرف على موقف المواطنين من سياساتها، ومن أسلوب تنفيذها لهذه السياسات، وتفضيلات المواطنين لأي من بدائل السياسات.. التي قد يرونها الأفضل. ولذلك وجدت كل نظم الحكم أساليب تمكنها من التعرف على آراء المواطنين. 

أذكر أنه في عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، كان يطلب من أعضاء التنظيم السياسي – مثل الاتحاد الاشتراكي العربي ومنظمة الشباب – وليس فقط أجهزة الأمن.. كتابة تقارير عن القضايا التي يهتم بها المواطنون، والإشاعات التي تسري بينهم، وحتى النكات التي يتبادلونها عن السياسات والحكام. بل استشهد الرئيس عبد الناصر – في إحدى خطاباته – بواحدة من تلك النكات. ويهتم مركز معلومات مجلس الوزراء في مصر في الوقت الحاضر.. بتعقب الشائعات والرد عليها من خلال وسائل الإعلام. وهذا الاهتمام بموقف المواطنين من الحكومة، هو الذي دعا مجلس الوزراء في مصر إلى إتاحة موقع إلكتروني، يرسل له المواطنون شكاواهم، ويتلقى هذا الموقع عشرات الآلاف من الشكاوى سنوياً، ويحرص على أن ينشر في وسائل الإعلام عدد الشكاوى التي تعامل معها. 

ووصل الاهتمام بقياس الرأي العام لدى الحكومات الأجنبية.. التي سعى بعضها – حسب تقارير عديدة – إلى التلاعب باختيارات الناخبين في دول أخرى تهمهم، باستخدام أدوات التواصل الاجتماعي.. لنشر أنباء مختلفة وقصص مفبركة، تمثل تشنيعاً على المرشحين الذين لا يميلون لهم، وجوانب إيجابية للمرشحين الذين يؤيدونهم. ولذلك، على الرغم من القيود المفروضة على استطلاعات الرأي في مصر، نجح كل من مركز معلومات مجلس الوزراء في السابق، ومركز بصيرة – الذي نشأ في سنة 2012 – في إجراء استطلاعات عمقت من فهمنا لجوانب عديدة في الثقافة في مصر، وفي تقييم المواطنين لسياسات الحكومة؛ فعلى سبيل المثال، نعرف من أحد استطلاعات بصيرة.. أن المواطنين في مصر أقل تقبلاً للمساواة بين الرجل والمرأة، ونعرف من استطلاع آخر.. أن أكثر القضايا التي تسبب عدم رضا المواطنين عن أداء الحكومة، هي تحديداً – وبالترتيب بحسب أقلها من حيث رضاء المواطنين – الأسعار ومستوى المعيشة لمحدودي الدخل، والفساد، والتلوث. هذه بعض القضايا التي تعرض لها هذا الكتاب الجديد في موضوعه، وشامل الإحاطة للموضوعات التي تعرَّض لها. 

نقلاً عن «الشروق»

شارك هذه المقالة