Times of Egypt

.. الذي أنقذني من القتل!!

M.Adam
أحمد الجمال

أحمد الجمال
مرت 15 سنة على انتقال العم محمود السعدني.. من غلاف الضوء والهواء، إلى غلاف النور اللانهائي. مرت بسرعة رهيبة؛ شأنها شأن سنين وشهور وأيام.. تمر على كثيرين – أنا منهم – ولا نكاد نتبين أنها مضت، لأن إدراك ذلك، يعني مباشرة.. أن النهايات هي الأخرى تقترب بالسرعة نفسها. ولأننا من جنس بشري.. جُبِل على الخوف من المجهول، فإننا نعيش التربص بالقادم، حتى وإن نجحنا في ادعاء الطمأنينة والاستبياع!
ثم إنني أدين للسعدني الكبير.. بدين لا يوازيه أي دين، لأنه أنقذ حياتي بالمعنى الحرفي للكلمة. وقصة ذلك، أنه كان يعيش في لندن.. بشقة مكونة من غرفة كبيرة، مفتوحة على صالة صغيرة.. بها مطبخ «استوديو»، بالعمارة المشهورة باسم «ستيوارت تاور» في شارع إدجوار، وهي عمارة تملكها مؤسسة الكنيسة البريطانية، وتؤجر وتبيع شققها بنظام حق الانتفاع طويل المدى. وهى العمارة القاتلة؛ التى سقط من إحدى شرفاتها الفارس النبيل.. الفريق الليثى ناصف – الذى كان قائد الحرس الجمهورى أيام الرئيسين عبدالناصر والسادات، وله الدور الحاسم فى أحداث مايو 1971، (وتلك قصة أخرى) – وكان وسيبقى مصرعه فى لندن.. لغزاً، تعددت فيه الآراء، لأن المعلومات مازالت مخفية.
وسقطت منها أيضاً.. الفنانة العبقرية سعاد حسنى، وقصة مصرعها كقصة الليثى.. غامضة أيضاً.
وكنت فى إحدى زياراتى للندن، وحينها كان هناك العم الكبير الأستاذ محمد عودة – المفكر والصحفى المعروف – حيث فاتحوه فى إصدار مجلة جديدة.. اسمها «النيل».
وفيما أنا مع العم محمود – فى شقته – طرق الباب الأخ محمود نور الدين السيد، (المشهور باسم نور السيد).. فارع الطول، قوى البنية، صلد الملامح، ذى البشرة البيضاء.. التى يتخللها بعض آثار حب الشباب.
جلس معنا، وبعد دقائق من الحديث.. قال – بهدوء وحسم – موجهاً كلامه لى: «إنت شتمت السعدنى ليه؟»، ورددت: «لم أشتمه.. إنت مالك؟»، وبالهدوء نفسه والحسم: «إنت ابن… ومن يشتم السعدنى أنا أقتله»! ورددت الصاع صاعين، وعندها وقف نور، ووجدت عم محمود يقف على الكنبة ويصيح فى وجهى: «اسكت.. اسكت هيقتلك.. هيقتلك.. قوم امشى من هنا»، واتجه للباب وفتحه وانتزعنى انتزاعاً ودفعنى باتجاه الممر الخارجى!
وفعلاً، كان نور السيد قاتلاً محترفاً، وجهت إليه أصابع الاتهام فى مصرع الليثى ناصف. ووجهت إليه – وبقوة أيضاً – فى مصرع شاب مصرى.. كان يعمل معه – ومع السعدنى فى «مجلة23 يوليو» – اسمه صلاح أبوالنور. ويبدو أنه عمل مع نور فى تجارة السلاح، وحدث خلاف بينهما؛فحبسه نور، وقضى عليه.
ثم سافر إلى السويد، لتحدث وقائع دامية مع السيدة زوجته وأم بناته، دخل بسببها السجن هناك، ليخرج ويستكمل ما بدأه من دموية.. حتى عاد لمصر، وأسس تنظيم «ثورة مصر»، الذى استهدف الصهاينة والأمريكان. وصار عند البعض بطلاً قومياً. وكان السر المخفى وراء غضبه منى، هو أنه أوهم الأستاذ محمد عودة.. أننى مسؤول تمويل مجلة النيل، التى سيؤسسها نور، ويتولى عودة رئاسة تحريرها.
وعند وصولى لندن.. كانا فى استقبالى بالمطار. وخلال الكلام فى الطريق، أكدت أننى لا علاقة لى بالمجلة.. ولا بالتمويل ولا غيره، وقرر الأستاذ عودة الانسحاب من المشروع، واشتعل غضب نور – الذى كان قد قرر.. أن يلقينى من شرفة شقة السعدنى الكبير – الذى حدث خلاف بينى وبينه عام 1983، وتبادلنا التراشق على صفحات الجرائد؛ هو فى السياسة الكويتية، وأنا فى الخليج الإماراتية. ولذلك قصة طويلة.
… لم يكن عم محمود يأمن لنور، بل كان يخشى على وحيده – الصديق أكرم – من أن يفتك به نور.. الذى وجدت الشرطة المصرية رسماً كروكياً لمنزل السعدنى (فى شارع البحر الأعظم) بين أوراقه. ولذلك كان العم محمود.. يستريب من أى سيارة تقترب من منزله.
وكان أول لقاء بين الساخر الأعظم وبينى، عندما سافرت طريداً شريداً – وبإذن من محكمة أمن الدولة العليا، التى كانت تنظر قضية يناير 1977 – وقدمت شهادة من الجامعة، كتبها لى أساتذتي أحمد عزت عبدالكريم وإسحق عبيد؛ بأنني أحتاج للاطلاع على الوثائق البريطانية (في الأرشيف العام البريطاني).. لإنجاز رسالتى للماجستير. وتلقيت توجيهاً من الراحل محمد عروق – الذى كان مديراً لصوت العرب – وبعدها شاركنا فى تأسيس تنظيم الطليعة العربية «السرى»؛ بأن أتصل بالأستاذ محمود السعدنى، ولا أثرثر فى التليفون، وذهبت وطلبت الرقم، لترد علىَّ امرأة إنجليزية وأوصلتنى به، وقلت: «أنا أحمد من طرف محمد». وإذا بى أسمع ضحكة، وتحية إسكندرانية مجلجلة.. ومعها سباب طريف. وقال: «إنت مش أحمد الجمال يا ابني.. وجاي من طرف محمد عروق، وعاملين تنظيم سرى لقلب نظام الحكم يا أولاد…!». ثم ضحكة وشهيق إسكندراني!! وطلب منى أن أكتب عنوان «مجلة 23 يوليو».. في حي «إيرلز كورت».
وذهبت واستقبلني بحفاوة بالغة، وكان ما دار فى مكتبه ذلك اليوم.. من شهر أغسطس 1979، وبعد ذلك.. طيلة أغسطس وسبتمبر.. قصة شديدة الطرافة والغرابة، أتمنى أن أستكملها في مذكراتي. وأتمنى أن أكتب الفرق بين فيلسوف السخرية غير المتكرر.. محمود السعدني، وهلافيت المسخرة.
نقلاً عن «المصري اليوم»

شارك هذه المقالة