مصطفى حجازي
ولكي لا نحرم الوجدان العربي.. حقه في البكاء على ما كان، وجلد الذات في كل وقت، نُذَكِّر بأنه تحل اليوم.. في الخامس عشر من مايو الجاري.. ذكرى نكبة فلسطين؛ ذاك الجرح الحاضر في هوان حال كل شارع عربي، وقد لا يحتاج إلى تذكرة.
ولكي لا نمنع العقل العربي حقه في الخيال.. كذلك. وعطفاً على ذات الحدث، فلْنُبْحِر في المستقبل قليلاً.. وفي رحاب ذات الذكرى.. وليكن..
الزمان هو «يوم الجمعة 15 من مايو 2048».. المكان كوكب الأرض.. حال الأمم، كما سيأتي سرده..
»الولايات المتحدة».. ما زالت قوة عسكرية واستخباراتية كبرى، رائدة في الابتكار والتكنولوجيا، رقم أصيل في معادلة اقتصاد العالم، متشاحنة داخلياً، ليست قطباً أوحد، ولا مرجعية متفردة في قيادة العالم.
»الصين».. أكبر اقتصاد في العالم، رائدة في البنية التحتية، قائدة تحالفات بديلة؛ في كون اقتصادي موازٍ لنظام «بريتون وودز».. الذي تقوده أمريكا. ولكنها دولة شائخة سكانياً؛ بما يعوق تحولها إلى قوة هيمنة عالمية.. غير قادرة على فرض نموذج سياسي على العالم، ولكنها مُلْهِمَة بنموذج تنموي تقني عملي، تقود به الاقتصادات النامية في العالم.
»الهند» هي القوة العالمية الثالثة.. ديموجرافيا شابة؛ بنمو رقمي، وحياد جيوسياسي.. مركز عالمي للبرمجيات، والتكنولوجيا الحيوية، والطاقة النظيفة. ولكن علاقة تبادلية آثمة – بين الفقر والتطرف والتوترات الداخلية – ستبقيها مُرْهَقَة، ومعرقلة.. لتفردها أو هيمنتها.
»أوروبا».. القارة العجوز، ستحافظ على قوتها الناعمة في التكنولوجيا والثقافة والبيئة، مُقَسَّمَة عسكرياً، غير قادرة على فرض نفوذ موحد، مُتَلَكِّئَة سياسياً.. وغير مقدامَة، ولكن مؤثرة في قضايا المناخ والقانون والتجارة.
»الجنوب العالمي».. يزداد بزوغاً وأثراً؛ البرازيل، جنوب أفريقيا، تركيا، دول جنوب شرق آسيا.. كلها أقطاب إقليمية وازنة، ومؤثرة في سلام العالم، وحركة اقتصاده.. كما أن تكتلاتها الإقليمية قد تنتهي إلى نظم تجارية واقتصادية.. تنافح هيمنة الدولار.
»قوى ما فوق الدولة» – أو «الشركات العظمى».. آبل، مايكروسوفت، أمازون، بايت دانس، بلاك روك، تسلا، سبيس إكس – هي كيانات متجاوزة قدرات بعض الدول العظمى.. في التأثير الفعلي؛ أدوات هيمنتها – أو أسلحتها الفعلية – هي الذكاء الاصطناعي، العملات الرقمية السيادية، الهيمنة على البيانات. وذلك أكثر مُضِيّاً وأثراً.. من كل الأسلحة التقليدية؛ بما فيها جدوى استخدام السلاح النووي.
»عالم عربي».. على حال من ثلاث..
أولها.. عالم، العروبة فيه قدَرُ ميلاد، لا تنكرها بعض شعوبه ولكن لا تعرف لها استحقاقاً. منقسم على ذاته جغرافياً وسياسياً.. دول ثراء ومراكز مال منفصلة – وجدانياً وسياسياً واقتصادياً – عن مغرب عربي.. مأزوم، ومشرق عربي.. متآكل.
أنظمة هجينة مستبدة، مجافية للحوكمة الرشيدة.. ولو على مستوى النوايا. تباين مفجع في التنمية بين دُوله. فلسطين.. إرث ثقيل يؤرق – دون أن يوجع – الضمائر. تُذْكَر.. دون فعل يُذْكَر. الغرب يهيمن عليه اقتصادياً، والصين تتسيد عليه لوجستياً.
… إيران وتركيا وإسرائيل، ذات أوزان تقرر في شأنه.
أي عالم عربي.. غير منهار تماماً، ولكنه هَمَل؛ دون وزن حقيقي في موازين القوى العالمية.
ثانيها.. أطلال أمة.. تتنازعها الحروب الأهلية، وصراعات الوكالة.. لتفضي بشعوبه إلى ديستوبيا بشعة، لا تنتهي.
… عقول مُهَجَّرَة قسراً، وطاقات بشرية مُنْزَاحَة، وعرب.. صاروا علماً على الشتات. تَبَرُّم على جدوى الهوية، وطمس لها.. في وسط انعزال ثقافي بين الشعوب، وكراهية للذات.. أجيال من أشباه البشر، تحيا كالسائمة.. بلا حلم ولا أمل، ولا مشروع مستقبل.
ثالثها.. أمة ترى في عروبتها.. الجدوى والضرورة.. أصلحت ذاتها بالتعليم المُجْدِي، والاقتصاد ذي الأثر، والحوكمة الرشيدة.
… تقود مسيرة إصلاحه مصر، وتكتل خليجي متكامل، ومغرب عربي مُتَهَادِن؛ تكامل إقليمي واقعي.. مؤسس على تكتلات شبه اتحادية.. في مجالات الطاقة، والغذاء، والتكنولوجيا.. متجاوزة فلك الشعارات؛ عِلْمٌ يقود، وثقافة تُرَقِّي، وفكر يهدي ويرشد..
… فلسطين.. تلامس شطآن أمانها، بعدما صار الواقع العربي.. قادراً على استعادة زمام العدالة التاريخية، وفرض حل الدولة الواحدة.
خمس دول عربية، في القلب.. منها مصر؛ تحقق طفرات تنموية.. كمثل ما كان في شأن كوريا الجنوبية وماليزيا وسنغافورة.
عالم عربي، بات قوة إقليمية.. تقود الجنوب العالمي، وتفاوض الغرب والصين.. من موقع ندية نسبي. ثقة في الهوية، واعتزاز بالقدرة.. على قيادة مشروع حضاري عربي.
حال العالم العربي اليوم – في الذكرى السابعة والسبعين لنكبة فلسطين – هو إرث عربي.. من التيه والعجز، لا يمكن تجميله، ولا إنكاره، ولا تغييره.
حال العالم العربي – في الذكرى المائة لنكبة فلسطين 2048 – هو قرار.. نملك زمامه في عقولنا، قبل أيدينا.. من اليوم..
… إما استعادة جدوى الهوية، والاعتصام بريادة العقل، وقيادة العلم، واستدعاء أهلية الشعوب.. لا استعدائها؛ كسائر الأمم.. التي تجاوزت نكباتها..
… وإما اللغو والسفه والتناحر، وثرثرة المؤامرة، والتيه اختياراً.. لنبقى منكوبين بلا نكبة!
فَكِّرُوا تَصِحُّوا..
نقلاً عن «المصري اليوم«