نبيل عبدالفتاح..
بعض التصورات الشائعة لدى بعض الباحثين والأكاديميين العرب..تتسم بالجمود في نظرتها للدولة ككيان رمزي.. متعالٍ عن مكوناتها، والسلطات الثلاث وأجهزتها، وهو ما يمتد إلى مفهوم السيادة في عالم معولم متغير، تخضع فيه لموازين القوة في النظام الدولي وفواعله، وشركاته العابرة للدول والأسواق.
أدت الثورات الصناعية – من الأولى حتى الرابعة – إلى تأثيرات كبيرة في الدولة، والسلطة، ومفهوم السيادة، وعلى الديمقراطيات الليبرالية والثقافة السياسية الحاملة لها. من ثم أثرت على الحريات العامة؛ خاصة مع ثورة الاستهلاك المكثف، وهو ما أدى إلى تغيرات كبرى في مفهوم الحريات العامة والشخصية، وتحولت حرية الاستهلاك.. الفعلي أو المأمول إلى الحرية المركزية، التي كرَّست الفردية المفرطة، وإزاحتها وتهميشها النسبي لبعض الحريات العامة، لا سيما السياسية.
من هنا كان التأثير الطاغي لتوظيفات مفهوم الحريات السياسية والفردية.. لمصلحة الرأسمالية النيوليبرالية، خاصة من قبَل الشركات الرأسمالية الكبرى وأثرها على بعض الإدراك والوعي الفردي وشبه الجمعي، في السلوك السياسي والاجتماعي واليومي.
وأدت هذه التوظيفات الرأسمالية للإعلام، إلى تحوُّل الحريات إلى تمثيل، واستعراض إعلامي، وهيمنة سياسات تسليع الحريات.. التي تسيطر عليها الشركات الإعلامية الضخمة، والمصالح الاقتصادية الكبرى لمموليها، وإلى سطوة الإعلان، وشركات العلاقات العامة، لا سيما في الولايات المتحدة، ثم إلى أوروبا الغربية، وامتدت من مجالات السينما، إلى السياسة والسياسيين.
وأدَّى تطور الشركات الرأسمالية الكبرى والمصارف – على المستوى العولمي – إلى التأثير على مفهوم السيادة، وذلك من خلال سياسات هذه الشركات الضخمة في استثماراتها العابرة للحدود والأسواق الإقليمية والوطنية من خلال أشكال معقدة من الأنظمة القانونية للدول المختلفة، ولا سيما دول جنوب العالم، التي باتت غالبها خاضعة لشروط هذه الشركات والمصارف، ومعها أيضاً المؤسسات المالية الدولية.
لا شك أن هذه التحولات – في إدراك وهيمنة الشركات والمصارف الرأسمالية الضخمة – أدت إلى انعكاسات سلبية على النظم الديمقراطية الليبرالية، وتآكل بعض من مكوناتها؛ وفق عديد الدراسات الغربية، ووصفها بعضهم – Yacha Mounk في كتابه The People Vs Democracy- بتآكل الديمقراطية الليبرالية وارتباطها بالليبرالية في مسارها، وحدوث بعض الانفصال بينها، وصعود بعض الحكومات الليبرالية التي تسيطر عليها النخبوية، والتكنوقراطية، والقضائية، خاصة بعد الحرب الباردة.
لا شك أن هيمنة حرية الاستهلاك المفرط.. ساعدت على حالة من التهميش الفردي، وتمدد الشعور بالتفاوتات الطبقية داخل المجتمعات الغربية الأكثر تطوراً، خاصة مع القفزات التكنولوجية الفائقة المتلاحقة، وبروز مشكلات الاندماج الاجتماعي، لمواطنين..من ذوي أصول غير أوروبية، وأديان ومذاهب وأعراق مختلفة،عن غالبية مواطني هذه المجتمعات – وخاصة في أوروبا – وهو ما أدى إلى ظهور الاتجاهات اليمينية المتطرفة، وكراهية الأجانب، والإسلاموفوبيا، وشيوع الاتجاهات الشعبوية، والزعامات السياسية ما بعد الحرب الباردة؛ التي يفتقر بعضها إلى الملكات والقدرات السياسية للنخب السياسية ما قبل وما بعد الحرب العالمية الثانية. تتمثل مخاطر هذا النمط من الزعامات الشعبوية السياسية.. في محاولاتهم التشكيك في فاعلية النظام الديمقراطي الليبرالي، من خلال محاولات المساس باستقلال القضاء وحرية الصحافة والإعلام.. على نحو ما فعل – ولا يزال – ترامب، تحت مقولات «أمريكا أولًا»، و«أمريكا عظيمة».
ساعد على صخب الشعبوية، وأزمة الدولة، والنظام الديمقراطي الليبرالي.. أزمة المحكومية، وقابلية الأفراد للانضواء والمشاركة في المؤسسات السياسية، والتفاعل معها. وهي ظاهرة بدأت في نهاية سبعينيات القرن الماضي، وتتمثل في تراجُع نسب المشاركة في الانتخابات العامة، وعدم مشاركة بعض أقسام الجماعات الناخبة.. في الاقتراع العام، خاصة مع التآكل في بنيان الطبقات الوسطى، وازدياد نسب الضرائب وارتفاع بعض أسعار السلع والخدمات كالنفط والغاز.
كرَّست الشعبوية وأزمات الديمقراطيات الليبرالية تطور الرأسمالية النيوليبرالية، التي يعتبرها بعض الباحثين الغربيين -Wendy Brown- في كتابه في أنقاض النيوليبرالية إنها تمثل مشروعاً لتآكل الديمقراطية الليبرالية، وليست كما تصورها مُنظرا مدرسة شيكاغو فريدريش هايك، وميلتون فريدمان، كمشروعٍ لتحرير الأسواق، وإنما هي مشروع لإعادة تشكيل الفرد والمجتمع والسيادة، وأنها أسهمت في إضعاف وتآكل الثقافة والقيم السياسية الديمقراطية ومن ثم أسهمت في تفتيت وتفكيك نسبي للسلطة، وإعادة تشكيل الفرد.. كمشروعٍ استثماري ذاتي.
لا شك أن الشعبوية القومية المتطرفة، والعرقية.. أثرت سلباً على الثقافة السياسية الليبرالية الديمقراطية، ومؤسساتها، وعلى الأفراد والحريات، وذلك لمصلحة خضوع الفرد أسيراً لحرية الاستهلاك المفرط، وسياجاتها الناعمة وغوايتها، ومن ثم تحول الفرد إلى سلعة في السوق، وهو ما سوف يزداد.. في ظل عدم تبلور اتجاهات سياسية مضادة للنيوليبرالية، وداعية لإصلاحات في المؤسسات السياسية.. على نحو ما حاوله بعضهم في حركة السترات الصفراء الفرنسية.
نقلاً عن «الأهرام»