Times of Egypt

الدولة العربية والهويات المتصارعة

M.Adam
نبيل عبدالفتاح

نبيل عبدالفتاح..


بعض النظم والسلطات السياسية العربية، شكلت حالة المجتمع ضد الدولة.. على نحو ما كان يوصف به النظام السوري البعثي في عهدي حافظ الأسد، وبشار الأسد، وذلك قبل الثورة الرقمية وفوضاها، وبعدها، ومصدر هذه الحالة.. هو الطابع القمعي لممارسة السلطة بالعنف، في ظل تركيبة للحكم تعتمد على الطائفية الدينية، والمذهبية، وهيمنة بعض الطائفة العلوية.. وفي ذات الوقت بعض الموالين والمحاسيب السياسيين للسلطة، من الجماعات الأخرى -المسلمين السنة وغيرهم – وإقصاء وتهميش، وقمع لهم، مع بعض الموالين من حزب البعث الحاكم، وتحالف من أحزاب هامشية لا قواعد اجتماعية لها، لأن النظام وسلطاته الأمنية والاستخباراتية.. كان يمارس القمع على معارضيه، وانتشار عمليات التنصت، والتقارير الأمنية على العاملين في أجهزة الدولة، والقطاع الخاص، وداخل العائلات والأسر والمساجد، والمقاهي؛ فيحالة حصار – شبه شاملة – لأنشطة، وأفعال وأحداث ووقائع الحياة اليومية، ومعها عمليات القبض والتحقيق، والاعتقال، والتعذيب دونما ضمانات لمحاكمات عادلة أمام قضاء مستقل، حيث القضاء داعما للسلطة وأوامرها ونواهيها.

اعتمد النظام السوري – والعراقي والليبي – على الأجهزة الأمنية في إدارة النظام، بديلا عن الإدارة السياسية، والفكر السياسي الخلاق، وهو ما أدى إلى ظواهر موت السياسة في المجتمع والدولة والنظام.
من ثم أدت تراكمات القمع؛ وفوائضه إلى رهاب الخوف.. المحلق في حياة الأفراد والمجتمع ومكوناته؛ ومن ثم الحياة القلقة وغير الآمنة، وهي بيئة تدفع إلى الفساد في الإدارة، والحياة اليومية.

السلطات القمعية، ورهاب الخوف في سوريا، وعراق صدام حسين، وليبيا معمر القذافي، أدت إلى ضعف سياسات الاندماج الداخلي، والتكامل بين مكونات الجماعات الطائفية والمذهبية في سوريا، والعشائر والمذاهب الدينية، والأكراد في العراق، وبين القبائل، ومواقعها المناطقية في ليبيا،، وبين قبائل الوسط النيلي في السودان، تجاه جنوب السودان، والقبائل الأفريقية في شمال كردفان وإقليم دارفور.
أدَّت سياسات بوتقة الصهر إلى القمع الرمزي والمادي.. لمكونات الشعب في سوريا، والعراق، (وليبيا)، على نحو أدى إلى تفكك في بعض الأنسجة الثقافية، والاجتماعية التي تشكل أساس علاقات مكونات كلا الشعبين الكبيرين. ومع تمدد هذه السياسات، وصف بعض الباحثين الوضع في سوريا، بـ «المجتمع ضد الدولة».. في عهد الرئيس الأسبق حافظ الأسد، وذلك قبل الثورة الرقمية، ورحيل الأفراد إلى المجال العام الرقمي.. لإبداء آرائهم؛ خاصة من هاجروا إلى خارج سوريا هروبا من القمع، وهو ما أدى من بعضهم إلى التركيز على البعد الطائفي.. في سجالاتهم وهجائهم للنظام،- بقطع النظر عن اللغة المستخدمة والتي يضمر بعضها تحيزاتهم.
مرجع هذا التدرب والتشظي الهوياتي الجامع للمكونات الداخلية في بعض المجتمعات العربية قبل الثورة الرقمية، والربيع العربي وبعده – أن الأجيال الجديدة من أبناء الرقمنة، ومعهم بعض الجماعات السياسية المنظمة، جاءوا من موت السياسة، وغياب ثقافة وخبرات الدولة وأجهزتها البيروقراطية، والأمنية، والعسكرية. من ناحية أخرى، لم يكن لديهم قواعد اجتماعية.. داعمة لهم، واعتمدوا على الجموع الغفيرة غير المسيسة والمتذرية، وخطاب الشعارات العامة السائلة، ومن ثم افتقروا إلى سند حزبي، أو جماعي منظم والقدرة والكفاءة التنظيمية.. التي تجعلهم قادرين على التفكير السياسي، والقدرة على التفاوض مع السلطات الانتقالية. أدى ذلك إلى استخدام الواقع الافتراضي في التعبئة، وبعض الحشد السياسي للتظاهرات، لكن دونما تنظيم محكم، وقيادات سياسية.. قادرة على تقديم برامج وأفكار لمرحلة الانتقال السياسي.
في الحياة الرقمية، بدا ثمة انفجارات لآراء وانطباعات مرسلة للجموع الرقمية الغفيرة، وتناقضاتها وصراعاتها، وتشظيها، ومن ثم أدى ذلك إلى فوضى في الحياتين الرقمية والفعلية، خاصة في ظل سطوة، بعض الانطباعات الساذجة.. حول وقائع تاريخية وسياسية، وحول شخصيات سياسية بارزة، وهو ما خلق تناقضات واسعة بين الجموع الفعلية والرقمية الغفيرة .
الخطاب الرقمي حول مفاهيم الدولة والنظام والحرية، بات يتسم بالخلط، والتشوش والاضطراب والتوهان السياسي – بعض ما تم في العراق ما بعد الغزو الأمريكي – أظهر وفجر وكرس التناقضات المذهبية، والقومية، والعشائرية، من خلال هندسة نظام ما بعد صدام حسين الذي خططت له الأجهزة الأمريكية، وأدى إلى مشكلات جديدة، وعسر في عمليات بناء المؤسسات السياسية، وإلى هيمنة المذهبية الدينية، والقومية-الكردية..على تشكيل وإدارة النظام.
في سوريا، أدى تهميش الأغلبية السنية إلى تديين الصراع مع نظام البعث الأسدي، وهو ما أدى إلى تدمير حماة، وظل ذلك في الذاكرة السياسية.. علامة على الصراع المستمر مع النظام، والمجتمع ضد الدولة. في السودان، كان تهميش الجنوب قبل استقلاله يرتكز على أسس قبلية وعرقية ودينية – من القبائل العربية في الوسط النيلي، وبين المكونات الأفريقية القبائلية – وهي تمييزات أدت إلى ضعف قدرات وملكات النخب السياسية ما بعد الاستقلال.. على دمج بعض هذه المكونات المتعددة في قلب النظام ومؤسساته.
الدولة الأمة- على المثال المصري، والمغربي، ونسبياً تونس – يكاد يشكل حالة سوريا، والعراق، ولبنان، والسودان وليبيا وبعض البلدان العربية، رغم عراقة الثقافة والتاريخ في المشرق العربي. مرجع ذلك هو سياسة اللاسياسة، وقمع الحريات العامة وانتهاكات الحريات الشخصية، وتجسد الدولة في النظام التسلطي، وكلاهما في الحاكم عند قمة النظام، وبعض مراكز القوة، وأيضاً هشاشة المؤسسات السياسية وسلطات الدولة لصالح الحكم عند القمة السلطوية.
بدت الأحزاب السياسية – في بعض البلدان العربية – محض أيديولوجيات، وخطاب سياسي مرسل في الفراغ، لا تستند إلى قواعد جماهيرية؛ سواء الأحزاب الحاكمة، أو الأحزاب المعارضة، الموالية، أو المحجوب عنها الشرعية السياسية والقانونية. كانت بعض أيديولوجيات هذه الأحزاب منفصلة عن مشاكل القوى الاجتماعية المختلفة، وأيضاً بعضها كان يرتكز على بعض الجماعات أو الأعراق أو القوميات في البلدان العربية الانقسامية، ومن ثم كانت جزءاً من إعاقات تبلور هويات جامعة في هذه البلدان، ومن ثم تعثرت عمليات بناء جوامع وطنية مشتركة.. عابرة للانتماءات الأولية في هذه المجتمعات المشرقية العريقة -سوريا والعراق – ما بعد الاستقلال عن الاستعمار الغربي.
ساعد في هذا التشظي الثورة الرقمية، وانفجار تسونامي رقمي.. من الجموع الرقمية الغفيرة، والأخبار السوداء، الكاذبة، من المكونات من بعضها على البعض الآخر، ومن ثم بروز ظواهر ثقافة كراهية الآخر داخل ذات المجتمع؛ خاصة مع حملُ هذه الأخبار السوداء والهجاءات.. على التحيزات الدينية والمذهبية والعرقية.. إلخ. من ثم بات التشظي والتذري محمولاً على الحياة الرقمية ومؤثراً على الحياة الفعلية.
من هنا، لا بديل تاريخي وسياسي أمام مجتمعات ودولة ما بعد الكولونيالية، إلا بناء مؤسسات تمثيلية ودولة قانون وحريات، وفصل للسلطات الثلاث الفاعلة، وتوزيع للقوة بينها، ونظم تعبر عن مصالح الجماعات التكوينية..الدينية والمذهبية والعرقية.. إلخ، تساعد في بناء موحدات جامعة عابرة للهويات الفرعية في كل مجتمع ودولة، في عالم عاصف بالتغير والصدمات.
نقلاً عن «الأهرام»

شارك هذه المقالة