عمار علي حسن
إلى جانب كتبه ودراساته العديدة – التي أتيت على ذكرها في المقال الأسبوع السابق – كتب الدكتور أحمد سالم.. أستاذ الفلسفة بجامعة طنطا، مقدمات لكتب مهمة، لكل من نبوية موسى، وأمين الخولي، وزينب فواز، ولبيبة هاشم، وديلاسي أوليري، ومحمد النويهي، وحقق كتاب عبد الرءوف المناوي «الجواهر المضية في بيان الآداب السلطانية».
… كما حرَّر – بموسوعة أعلام المصريين في العصر الحديث بمكتبة الإسكندرية – مواد عن كل من: رشدي فكار، وخالد محمد خالد، ومحمد بن فتح الله بدران، وسامي خشبة، ومحمد فرج السنهوري، وفرح أنطوان، وتوفيق الطويل، ويعقوب صروف، ونصر حامد أبو زيد، ورفاعة الطهطاوي، وشبلي شميل، والمستشرقين بول كراوس وماكس ماير هوف.
كما نشر «سالم» مقالات في العديد من المنابر الصحفية .. دارت حول أشخاص بارزين؛ مثل طه حسين وسلامة موسى ومالك بن نبي، ومحمد حمدي زقزوق وعلي حرب، ويحيى الرخاوي وياسر قنصوة، وقضايا مهمة عن مفهوم الحضارة، ونهضة الذات.. من التغريب إلى التأصيل، والاستشراق وكيفية مواجهته، والتفسير العلمي للقرآن بين مؤيديه وناقديه، وأصداء سقوط الخلافة بين العلمانيين والأصوليين، وأثر النزعة العلمية على الإيمان بالمعجزات الحسية، والليبرالية العربية، ومفهوم التراث، والإسلام والعلمانية، والتفسير الأدبي للقرآن، والتجديد اللغوي والتطور، وحديث النهايات، وجدل المعرفي والأيديولوجي في قراءة التراث، وتاريخ إصلاح الأزهر الشريف، وأنثوية العلم، وصورة الغرب، وموقف محمد إقبال من الثقافة الفارسية.
كل هذا الإنتاج العلمي.. إلى جانب تدريس الفلسفة الإسلامية – بفروعها (علم الكلام ـ التصوف ـ فلاسفة المسلمين) – وكذلك تدريس الفكر الإسلامي والعربي الحديث، ومع الإشراف على العديد من الأطروحات الجامعية ومناقشتها، والمشاركة في ندوات ومؤتمرات داخل مصر وخارجها، ولقاءات تلفزيونية عديدة، يقول بوضوح.. إننا أمام رجل يجاهد في سبيل ألا يبقى في الهامش، مثل كثيرين حوله ومعه، ارتضوا بموقعهم كمدرسين أو أساتذة في الجامعة.. على أنه مجرد وظيفة؛ غير معنيين بمواصلة البحث والاشتباك مع معارك المعرفة والعلم والحياة.
عناوين كتب ودراسات ومقالات ومقدمات أحمد سالم، تبين أنه رجل مشتبك مع المعرفة الفلسفية الإسلامية وغيرها.. بكل ما أوتي من قوة، وأنه لا يكتفي برؤيتها من داخلها، إنما يلتقط – بوعي شديد – ما يؤثر عليها؛ سواء كانت حركة الحياة التي لا يتوقف فيها الجدل.. حول الأفكار والقضايا وأدوار أهل القلم، أو كانت المعارف والعلوم الأخرى، التي تقارب الفلسفة من زوايا متعددة.
هل هذا وحده.. ما اتخذه أحمد سالم سبيلاً، ليؤدي دوره، ويهش عن نفسه كل عوامل التعمية والتغطية والإزاحة والاستبعاد؟
الإجابة – التي تأتي للوهلة الأولى – هي: لا. فالرجل ينطلق في رؤيته من أن الفلسفة.. ليست ترتيباً منطقياً، ولعبة ذهنية بحتة، وتصورات معرفية، ورؤى فكرية تحلق في فضاء التجريد، حابسة نفسها وأهلها في برج عاجي، أو غرفة مغلقة. إنما هي – وفي جانب مهم منها – تفاعل مع حركة الحياة، تنتقل من النظرية إلى التطبيق، ومن التجريد إلى التجريب، وتلتفت إلى هموم الناس وشواغلهم.. باحثة فيها، ومعها عن آفاق أخرى جديرة بالعناية والرعاية.
تأثر «سالم» بأساتذته.. أمين الخولي، وأحمد أمين، وحسن حنفي، ونصر حامد أبوزيد، في تصورهم.. الذي يقوم على أن التراث حي فينا، ولا بد للذات من أن توظفه.. في مواجهة العناصر السلبية الراهنة، وإعادة إنتاج كل فاعلية إيجابية فيه، متصلة بالحاضر.. من أجل بلوغ نهضة معاصرة، وهنا يقول: «من الضروري النظر إلى الحاضر ومشاكله، والبحث في الجذور التاريخية للمشكلات، فكان البحث في جذور الاستبداد.. عبر قراءة الآداب السلطانية ودورها في التأصيل له، وبحث في كيفية صناعة الإقصاء، وتكفير الأفراد بعضهم البعض، وكذلك تكفير أتباع الأديان ومختلف الفرق والمذاهب، عبر كتب في علم العقائد».
وفي سبيل تحقيق هذا الهدف، استخدم «سالم» المنهج التاريخي الاجتماعي، الذي منحه رؤية المعاني من نوافذ حركة التاريخ، وكشف له عن المكون الاجتماعي للأفكار، وأعانه على قراءة التراث.. في سياقه التاريخي القديم، قراءة الماضي وتأثيره في الحاضر، عبر وضع هذا التراث في أفق المعاصرة.
يأتيك صوت «سالم» مفعماً بالشكوى من تهميش الفلسفة، وإكراه أستاذ الجامعة على الاكتفاء بالتدريس، والباحث على حبس نفسه في بطون الكتب، لا ينزل الشارع. وإن نزل فلا يرى الناس، وإن رآهم لا يهتم بما يكابدون، وإن اهتم.. لا يمد يده ليساعدهم على الخروج من الضيق إلى البراح، ومن القهر إلى الحرية، ومن الظلم إلى العدل، ومن الانغلاق إلى الانفتاح، ومن التدجين إلى التمرد، ومن أحادية النظرة إلى تعددها.
يؤمن «سالم» – كما يبدو من مقالاته وتعليقاته – بأن المعرفة الحقيقية.. هي التي تخرج من رحم المجتمع، وأن ما استقر في بطون الكتب القديمة.. المشهود لها بالبقاء، لم يكن سوى إجابة عن أسئلة زمان تأليفها، وأن الفيلسوف الحق.. هو الذي يشتبك مع واقعه، ويستخرج – من بين أمواج الحياة الهادرة – درره الثمينة، الجديرة بالالتفات إليها والبقاء على قيد المعرفة.
يحدثك أحمد سالم عن شكوى تلاميذه.. ليس من المناهج الدراسية وتصرفات الأساتذة فحسب، إنما مما يعانونه كي يواصلوا الدراسة، فهذا يعمل لتوفير نفقات تعليمه، وذلك لا يجد أثمان الكتب المقررة، وهذا يتساءل عن جدوى دراسة الفلسفة.. في مجتمع يغرق تباعاً في اللهاث حول المنافع والمصالح المادية، لا يحده شيء من تحسب أو ورع في سبيل تحصيلها.
تسمعه، وصوته مخنوق، معترضاً عن النظر إلى الفلسفة باستهانة، والتعامل مع الجامعة باستهتار، لينتقل بك إلى حديث عن فوضى الشوارع، وبوار السلع في الأسواق، وضيق ذات يد الناس عن الشراء، وعن البطون الخاوية، والأجساد التي يرعى فيها المرض.. دون قدرة على تحصيل العلاج، وعن مكاتب الموظفين التي تعج بالكسل والتحجر، وعن الإعلام الذي لا يحسن أداء مهمته، وعن المثقفين الذين لا يكتبون عما يضني الناس، وكأنهم ليسوا منهم، ثم تجده ينتقل بك إلى حديث عن ديمقراطية نحن جديرون بها، وتنمية من الضروري أن تكون شاملة.
نقلاً عن «المصري اليوم»