وجيه وهبة
على مدار تاريخ الإنسانية، كانت ثنائية الخير والشر – وما زالت – مجالاً خصباً للأعمال الفلسفية والأدبية. وجود أحدهما.. يستلزم وجود الآخر. ولأديبنا الخالد «نجيب محفوظ» – الذي جمع بين دراسة الفلسفة وحرفة الأدب – مجموعة قصصية، صدرت عام 1948، بعنوان «همس الجنون».
من هذه المجموعة، نعرض موجزاً لقصة، عنوانها «الشر المعبود»، تتجلى فيها تأملات «محفوظية» فلسفية محيرة.. عن تلازم مساري الخير والشر، كأشبه ما يكون بالمبررات الوجودية.
تدور أحداث «الشر المعبود».. في زمان افتراضي ومكان متخيل؛ هو مقاطعة «خنوم»، التي تتمتع بخصوبة الأرض، واعتدال المناخ، وكثرة السكان. وحين «فسق مترفوها، وتضوَّر الفلاحون جوعاً، وعاث الأشرار في الأرض فساداً، وفتكت الأمراض والأوبئة بالضعاف والبائسين.. شمَّر للإصلاح رجال المقاطعة المسؤولون، وعلى رأسهم القاضي (سومر) وحارس الأمن (رام) والطبيب (حتب)، وكافحوا الجريمة والعيوب.. مكافحةً شديدة، صارت مَضرب الأمثال.. على الجهاد والصدق والعزم».
وفي أحد الأجيال التي مرَّت على تلك المقاطعة، «ظهَر رجلٌ غريب يشبه كهنة المصريين، ذكي حكيم، يطوف بكل الأمكنة، ويتحدث مع الجميع؛ الآباء والأبناء الأزواج والزوجات.. السادة.. العبيد. في الأسواق.. في المعابد.. إلخ.. ويترك خلفه أثراً عميقاً قوياً.. يُهيِّج في النفوس ثورةً جامحة، يشتدُّ من حولها الجدل والخصام».
ارتاب حارس الأمن «رام».. في أمر الرجل الغريب، فقبض عليه وقدَّمه إلى القاضي «سومر» لينظر في شأنه العجيب. وكان القاضي رجلاً طاعناً في السن.. عظيم التجارب؛ «قضى حياته المديدة في نشر العدل، وتطهير المقاطعة من أعداء السلام والطمأنينة». سأله القاضي عن اسمه، فأجاب بأنه لا يعرف، فعاود سؤاله: «بِمَ يدعوك الناس؟»، فأجاب: «لا أحد يدعوني، لقد مات أهلي وذويَّ، ولبثت في الدنيا دهراً طويلاً.. لا يدعوني أحد، ولا يُناديني إنسان، وكان رأسي مُفعَماً بالأفكار والأحلام، فنسيت اسمي».
سأل القاضي رجل الأمن «رام».. عن أسباب القبض على هذا الرجل الغريب الخرف، فأجاب «رام»: «إنه یا سیدي رجل لا يستريح ولا يُريح، يتطفَّل على الناس، ويُجادلهم في الخير والشر، ولا يدعهم.. إلا وقد فرَّقت بينهم الفتنة والشقاق». ثم سأل «القاضي» الشيخ الغريب عن.. سبب كل هذا، فأجاب بأنه إنما.. يريد إصلاح هذه الدنيا البشعة.
«ابتسم القاضي، وسأله: أليس يوجد مَن يهبُ حياته لهذا العمل النبيل، وهو قادر عليه؟، ماذا يفعل القاضي وحارس الأمن والطبيب؟. اطمئنَّ أيها الشيخ وأرِح نفسك». اعترض الشيخ مبيناً أن هؤلاء موجودون منذ الأزل، ومع ذلك فإن الشر لا يزال سائداً في كل بقاع الأرض.
فيسأله القاضي: «وهل تنجح أنت.. إذا أخفقت جميع هذه القوى المؤتلفة؟». ويجيب: «نعم»، موضحاً أن هؤلاء «يُطارِدون الأشرار ويُعالِجون الأمراض.. أما هو فطريقته هي أن يقضي على أصل الداء، الذي هو يكمن في المعدة.. وأنه قد وجد كثيرين لا يستطيعون أن يملأوا من هذه المعدة فراغاً، فيعيوا جوعاً، وآخرين لا يتركون بها فراغاً قط.. فيهلكون نهماً، ومن التجاذب والتنافر بين هاتين المعدتَين، يحدث السلب والنهب والقتل؛ فالداء بيِّن والدواء بيِّن»..
فيقول القاضي: «على العكس مما ترى، هذا داء لا دواء له!».
ويرد الرجل بأن هذا قولهم، لأنهم «لا يؤمنون بالخير حق الإيمان.. ويعملون بالأجر، وللجاه والمجد.. فإذا خلَوا إلى أنفُسهم، تهالكوا على ما يُجاهِرون بمقته من الإثم».. ولما لم يجد القاضي في عمل الرجل.. ما يستحق عقوبةً، أطلق سراحه.
«استطاع الرجل الغريب – في مدة وجيزة – أن يستأثر بآذان القوم، ويسحر قلوبهم، ويُهيِّج عاطفة الخير في نفوسهم، فاتبعه الفقير وخضع له الغني.. وجاءت النتائج باهرةً.. فسُحقت الجريمة، وهُزم الشر، وأدبرت الأمراض، وأظلَّت السعادة بجناحَيها المقاطعة، فهلَّل الحُكام وكبَّروا، وآمنوا بالرجل، وسعدوا جميعاً.. لبلوغ الغاية النبيلة، التي أنفقوا أعمارهم عبثاً في سبيل بلوغها».
ومع تقدم الزمان، «وجد الحكام أنفسهم عاطلين، والراحة لذة لا يذوقها إلا العاملون، فثقل الفراغ على ظهورهم، وشاهدوا بأعيُن جزعة.. مجدَهم ينهار وريحهم تذهب، ونورهم ينقلب ظلاماً»، فقد كل من حارس الأمن والقاضي والطبيب مكانتهم في المجتمع، ولم يعد أحد يعبأ بهم ولا يهابهم.
اطمأنَّ أهل الإقليم جميعاً.. إلى الخير، إلا أولئك الذين وهبوا أنفسهم «صناعة الخير».. «وكان حارس الأمن أشدهم عذاباً». ولما نَفِد صبره.. اجتمع بإخوانه لبحث الأمر، فلقد «أفسد الشيخ الخَرِف المقاطعة».. بدعوته التي تعوق التقدم، وتقتل الهمم، فلم يعد لهم احتياج، ومن الممكن الاستغناء عنهم. لابد من إيجاد حل.
وطمأن «رام» زملاءه.. بالنسبة لموقف القاضي؛ «قلبه معنا، ولكن لسانه الذي مُرِّن على الكلام عن العدالة، لا يُطاوعه على ما نحن بسبيله».
ذات صباح، اختفى الشيخ الغريب. بحث عنه مُريدوه، فلم يعثروا له على أثر. قيل إنه ذهب إلى مقاطعة أخرى، وقيل إنه صعد إلى السماء. وشمل الحزن المقاطعة كلها.
«تنفَّس السادة الصُّعداء.. وكلهم يحلم بالمجد الآفل، والنعيم الذاهب. ولكن ظل يقضُّ مضاجعَهم.. أن يروا عامة الناس، لا تزال مُتمسكة بدعوة الرجل الغريب.. مُخلِصة لذكراه». تفتق ذهن حارس الأمن عن فكرة لقلب الأوضاع، استعار من مقاطعة «بتاح».. راقصةً ذات حُسن لا يُقاوَم؛ مثيرة للفتن، قادرة على أن تُفرِّق ما بين الأخ وأخيه والزوج وزوجه، وبأن تُغْري الأغنياء بالانقضاض على السلاسل.. التي وضعوها في أعناقهم طائعين.
نجحت الخطة، وشهد المتآمرون «بأعينٍ مُشرِقة بنور الفرح.. ذلك النظام يتقوَّض بُنيانه، ويتهاوی.. وردَّت المعدة إلى عرشها، تتحكم في الرقاب والعقول، وعادت الحياة الشيطانية تملأ جو (خنوم) الهادئ، وتعصف بالسلام المُخيِّم على ربوعه، واستأنفت عصبة الحكم جهادها، ووجدت نفسها مرةً أخرى.. تُكافح وتُناضل دفاعاً عن الخير والعدالة والسلام».
* قصة «محفوظ»، «الشر المعبود».. تبين – في جانب من جوانبها الرمزية المتعددة – عن حيرة إنسانية فلسفية؛ بين مثالية تنشد عالماً خالياً من الشرور – فيكون بالتالي عالماً راكداً – وبين واقع صادم للأحلام المثالية، ولكنه واقع ديناميكي، يدفع إلى التقدم، يتبادل الخير والشر أدوار البطولة فيه.
ولكأنما تتمثل القصة شعر «المتنبي» حينما يقول:
بِذا قضَتِ الأَيّام ما بَينَ أَهلِها
مصائبُ قَومٍ عِندَ قَومٍ فَوائِدُ
أو حينما يقول أيضاً:
ونذيمهم وبِهِم عرَفنا فضلَه
وَبِضِدِّها تَتَبَيَّنُ الأَشياءُ
نقلاً عن «المصري اليوم«