أحمد الجمال
لا أعرف سبباً يحول دون اعتبار جرائم الرشوة عامة.. والرشوة الانتخابية (أو شراء الأصوات)، وجرائم تجارة المخدرات، وجرائم الإهمال الجسيم.. المتعمَّد، الذي ينتج عنه إزهاق أرواح وتدمير منشآت وتعطيل إنتاج وشلّ حركة مجتمع؛ جرائم خيانة عظمى عقوبتها الإعدام؟!
وإذا كانت الخيانة العظمى ليس لها تعريف محدد.. جامع شامل، فإن مفهومها الأقرب.. هو العبث والإضرار بأمن الدولة الخارجي والداخلي، والتآمر على حقوق الشعب المشروعة، وتسليم البلاد للعدو، أو إيجاد حالة من الفوضى.. تُسهِّل تدخُّل الدول الأجنبية في شؤون الدولة.
… وهنا يكون التساؤل وجيهاً بالفعل، حيث تندرج تلك الجرائم التي ذكرتها.. في عداد ما هو عبث وإضرار بأمن الدولة الخارجي والداخلي، وتآمر على حقوق الشعب، وسعي لتمكين العدو من رقبة الوطن!
وأظن أن الجميع يتذكرون حكاية الجاسوس الأمريكي، الذي زُرع في الاتحاد السوفيتي عقوداً متصلة، ولم يتم الإيقاع به، وسُئل بعد انهيار الاتحاد السوفيتي عن طبيعة مهمته، فردَّ بأنها كانت بذل كل الاستطاعة.. للحيلولة دون وصول الأكفاء إلى المواقع التي تناسبهم، أو تحتاجهم. والدفع بغير الأكفاء لشغلها!
وعليه، أليست عملية شراء الأصوات.. سعياً لإبعاد الأكفاء عن المواقع النيابية، التي يتم من خلالها التشريع ومراقبة السلطة التنفيذية؟
وأليست تجارة وتصنيع المخدرات، وترويجها في أوساط شباب الأمة ومجتمعها.. هدماً وتدميراً لمن يُفترض فيهم أنهم – في لحظة ما – سيكونون جنوداً في جيش الوطن.. ومنتجين في خطوط الإنتاج، وعاملين في الحقول والمزارع والمصائد والمصانع، وباحثين وخبراء في الجامعات ومراكز البحث والتدريب وغيرها؟!
ثم أليست جريمة قيادة سيارة نقل ثقيل، أو قطار.. تحت تأثير المخدرات، وقتل العشرات، وتدمير الطرق والمنشآت.. بما يعطل الإنتاج ويشلّ الحياة، جريمة تستحق التنصيف بأنها خيانة عظمى؟!
إنني أدعو لأن يكون على جدول أعمال البرلمان المقبل – بمجلسيه – مناقشة مستفيضة.. لإصدار تعديلات على القوانين التي تختص بالتصدي لهذه الجرائم، التي تطورت – في نوعها وكمِّها – وتطور تأثيرها في المجتمع.. حتى كاد بعضها أن يكون وباء متفشياً قاتلاً، يستلزم من مؤسسات الدولة – وخاصة وزارة الداخلية وجهات أخرى معنية بأمن الوطن – جهوداً جبارة مضاعفة، ومواجهات متصلة على امتداد الأرض المصرية، وخاصة في المناطق صعبة التضاريس.
وكم تابعنا – ونتابع بصورة شبه يومية – هذه المواجهات.. التي يستشهد فيها جنود وضباط من خيرة شباب الأمة، ناهيك عن ترويع الناس، وإهلاك الزرع والضرع، وتعطيل الحياة على يد هؤلاء المجرمين. ولو أن هؤلاء الخونة يعرفون أن العقوبة الحتمية والوحيدة.. هي الإعدام، لأحجم كثيرون عن تلك الخيانة.
وفي الإطار نفسه – إطار ما أحاط بالعملية الانتخابية من سلبيات جسيمة – بادر صاحب العين الحارسة للمحروسة، الرئيس السيسي، للتصدي لها بحسم؛ فإنني أيضاً أدعو كل ذي عقل وبصيرة.. لتأمل ما جرى في انتخابات عمدة مدينة نيويورك الأمريكية، التي تُعد عاصمة للمال والإعلام، ويبرز فيها دور جماعات الضغط المالية والإعلامية.. اليهودية الصهيونية والمسيحية الصهيونية، ولم يكن أحد – مهما شطح به الخيال – يتصور أن تأتي لحظة.. تتجه أصوات الناخبين هناك إلى التصويت لفوز شخص، جاء خطابه السياسي والإعلامي.. وكأنه صادر عن زعيم سياسي تقدمي تحرري اشتراكي.. في إحدى عواصم العالم الثالث، في أوج ازدهار وتأجج حركة التحرر الوطني العالمية.
وبلغ الأمر عند بعض من استمعوا لخطابات زهران ممداني، العمدة الفائز، أن علَّقوا بأنه وكأن «ناصر» يخطب في نيويورك، ويعلن انحيازه القطعي للفقراء والمهمشين وللعدالة الاجتماعية، إلى آخر الخطاب التحرري الذي عاش بعضنا فترة ازدهاره.
وليكون السؤال التقريري هو: متى يدرك أولئك الذين يعتقدون أنهم – بأموالهم وإفسادهم وفسادهم وجهلهم – يستطيعون الهيمنة إلى ما لا نهاية.. على بعض مقدَّرات الأمة. وأنهم أقوياء، ولن يستطيع أحد التصدي لانحرافاتهم. وأن البشر – بالنسبة لهم – كائنات بغير عقل ولا وعي ولا كرامة. ويمكن توجيههم وشراء إراداتهم.. متى يدركون أن ذلك لن يستمر أبداً، وأن لحظة ستأتي يكون الحساب فيها عسيراً تجاههم، وأنهم ليسوا أكثر سطوة ولا قوة ولا مالاً.. من مليارديرات نيويورك ولا جماعات ضغطها الرهيبة؟
متى سيدركون أنهم – بجرائمهم – لا يضرون أنفسهم فقط، وإنما يعصفون بسمعة رأس المال ويدفعون المجتمع لتعميم الأحكام الأخلاقية والسياسية على تلك الطبقة، بغير تمييز بين صالح يعرف دوره الوطني والحضاري والثقافي، وبين طالح طافح بالجهل واللامبالاة؟!
إن درس نيويورك عميق للغاية اجتماعياً وسياسياً وثقافياً.. فهل من مدَّكِر؟!
نقلاً عن «الأهرام»