مصطفى حجازي..
ترمب يُرغي ويُزبد.. يُهدد ويتوعد.. يفرض المكوس على من يريد زجرهم؛ حلفاءً كانوا أم خصوماً.. يغير واقع الخرائط.. يمحو أسماء ويزيد أخرى.. وعَلَّه قد يغير التقويم قريباً.
لا ينبغي أن يكون هناك خليج باسم المكسيك، حتى وإن قال التاريخ.. قبل الجغرافيا بغير ذلك. وليكن خليج أمريكا.. هكذا بأمره التنفيذي المباشر؛ الذي يَجُبُّ التاريخ والجغرافيا.. في عُرفِهِ هو..!
يقرر أنه سيشتري جرينلاند..!
لا يأبه لتململ الدنمارك، ثم لضيق الدنمارك، ثم لاعتراض الدنمارك، ثم لتدعيم الدنمارك دفاعاتها عن جرينلاند.. في خطوة قد تكون الأخيرة، التي تسبق المواجهات العسكرية في شأن الجزيرة.
يعلن أن قناة بنما، لا ينبغي أن تبقى ملكيتها.. مع حاضنتها الجغرافية. تارة يرى أنه خطأ تاريخي، ترخصت فيه أمريكا.. حين أعادت قناة بنما لدولتها. وتارة يزعم أن الصين.. تدير القناة، وذاك خطر لا يمكن السكوت عليه. وتارة يصخب.. بأن بنما تسيء معاملة السفن الأمريكية، وهذا لا يليق. ولا يمكن أن يمر مرور الكرام.. دونما محاسبة، وعقاب لتلك الدولة الهزيلة.. على تجرُّئِها في حق سيدة العالم.
وأخيراً وليس آخراً،يُغرِق الشاشات بفيض من تصريحات في شأن فلسطين، وعلى وجه الدقة.. جموع فلسطينيي غزة – المشردين داخل وطنهم -فيعلن بوقاحة.. أن على هؤلاء أن يُهَجَّروا إلى الأردن ومصر. وكلما حاول العالم أن يستدرك عليه.. عَلَّهُ يُجَمِّل وقاحاته، أو يصيب بعضاً من سمت رجال الدولة،يمضي في غَيِّهِ، ويمارس أحد أحط أشكال بلطجة التواصل؛فيؤكد ما قاله.. عن ثقته في أن البلدين العربيين سيقبلان؛ وكأنهما صاغران. ثقة مشفوعة بالمَنِّ، والتهديد، وجنون العظمة؛ليس فقط غير آبهٍ لكونه يتحدث في شأن دول ذات سيادة.. بل غير مدرك بحقيقة شعب حي، مناضل، مهيب، متجذر في أرضه.
مضى على درب عتاة سفهاء الديكتاتورية.. ادَّعى الخيرية والوصل بالسماء.. أكد أن القدير قد ادخره، وحفظه من الموت.. لمهمة مقدسة، وهي أن يعيد لأمريكا مجدها. وهو ما يعني – وفقاً لقاموس ضلالاته – أن يُخضع العالم لنزوات حكمه.
ولماذا لا ينزلق الرجل.. إلى قاع الجنون، وقد أعانته تصورات تسليع الانتخابات الأمريكية، أن يكون مرشحاً.. فرئيساً لدورتين، وغضت الطرف عن كل سفاهاته اللفظية والفعلية؟
تلك التصورات الآثمة.. التي ذهبت إلى ضرورة الزج بمرشح قابل للتسويق، واقتناص أصوات الناخبين، فدفعت به – وهو نموذج بائس للسياسي الأرعن.. أقرب إلى عَرَّابِي الجريمة المنظمة منه إلى رجل دولة، ولكنه سلعة انتخابية رائجة، قادرة على الكذب والإدهاش والترفيه – في عبوة سياسية واحدة..!
يعمل الرجل.. بصخب ودأب لافتين. يَشرعُ عملياً في تفكيك النظام القضائي الأمريكي. أو هكذا يتوهم.
ففي معرض الانتقام السياسي من كل خصومه،يلاحق القيادات العليا لمكتب التحقيقات الفيدرالي، يأمرهم بالتقاعد طواعية.. أو الاستقالة أو الطرد. يحاول – باستماتة – محو كل آثار جرائمه في ولايته الأولى، وآخرها اقتحام الكابيتول يوم السادس من يناير 2021.
قد يرى البعض في وجود ترمب.. الشر المطبق على العالم عامة، وعلى العالم العربي خاصة. وهو شَرٌّ لم تَخفَ نذره.. في أقل من عشرة أيام منذ احتلاله البيت الأبيض. ولكنه شرٌّ لا يخلو من فوائد..!
فالرجل يثرثر، ويباهي.. بكل ما في جوفه، وجوف إدارته، وجوف المنظومة الإمبراطورية الأمريكية.. حيال العالم بأسره. لا يتجمل، ولا يكذب. يعلن خبيئة العقل السياسي الأمريكي.. دونما مناورة.
وأظنه – في ذلك – قد كفانا مؤنة الأمل.. في فراغ أمريكا،وأوهام الحليف الداعم،وضلالات الشريك مأمون الجوار.. مأمول الأثر في الدفاع والتنمية.
عقيدة الرجل – كما وردت في أحاديث متلفزة مع قناة «سي إن إن»، حيال كل ما هو عربي ومسلم – هي البُغض الصُّراح، والاحتقار.. دون مواربة، والتوجس.. في أرق العبارات وصفاً؛ففوق كونه عنصري التكوين، كارهاً لكل من دون العنصر الأبيض،فإنه يرى فيما نمثله نحن.. عنصراً أدنى ممن يبغضهم.
قد يستخدم أصوات العرب والمسلمين الانتخابية.. استخداماً وظيفياً، ليرجح كفته في معركته مع نظرائه في النظام السياسي. ولكن لا يستطيع أن يَحمِل نفسه.. على أن يذكرهم بكلمة عرفان أو شكر.. حتى وهو يُثني على الجاليات الملونة؛ من الأفارقة والهيسبان الأمريكيين.
فلتكن لـ«ترمب» عقيدة، أو لا. عقيدة حيال العالم بأسره.. لا يعنينا – في كثير – أن نُسهب في تحليلها، أو أن نرجو منها خيراً، أو أن نفترض في بعضها أو كلها.. شراً، أو أن نؤثمه عليها. ولكن ما آن لنا أن نقرأه فيها، هو حقيقة الصراع الذي نحن فيه.. أن نقرأ ما يعول عليه، وما لا يعول عليه.. لكي ننجو وننتصر.
لـ«ترمب» – والغرب والشرق كله معه – ألا يرى في حال غزة.. إلا صفقة اقتصادية كبرى،ومغنمة سياسية.. تضمن للمشروع الصهيوني القدرة على البقاء؛ لأداء دوره الوظيفي.. في التنكيل بسلام المنطقة، والحيلولة دون تنميتها. كما أن له ألا يرى فينا – وفي أهلنا في غزة – إلا كائنات هملاً.. بلا ثمن ولا قيمة. له هذا.. وذاك شأنه.
أما نحن – مصراً وعرباً – من لم يزل منا.. عاجزاً أن يرى بعينيه المجردتين، كم الحقد والعنصرية والبغضاء.. حيال ما يمثله أهل فلسطين، وما ينتمون إليه من عروبة وحضارة.. صنعها مسيحيو العرب ومسلموهم سواء بسواء. ومن لم يزل مُصِرّاً.. على أن يبرر – أمام نفسه – هذا الكم من الدمار والقتل والترويع والتجويع.. لِعُزَّل، هم – بالأساس – من مُهَجَّري النكبة، وأن يصرف ذلك لرعونة حماس، أو لمعتقدها السياسي الضال. ومن لم يزل يرى فيما يجري في غزة.. أنه شأن أهلها، هؤلاء البؤساء قليلو الحظ، وأنه في مأمن من مصائرهم،فليستدرك وجهته في كل كلمة وسكنة وإشارة.. من «ترمب» وإدارته.
قد يذهب البعض إلى أن «ترمب» يناور.. في حديثه عن تهجير فلسطينيي غزة إلى الداخل المصري والأردني. وأنه يرمي – فقط – إلى زيادة حجم الاستثمارات الخليجية، التي يزعم أنه سيحول غزة بها.. إلى بقعة خلابة على المتوسط، يحيا فيها الفلسطينيون في أبراج شاهقة.. في نزر من أرض فلسطين التاريخية، متنازلين طواعية.. عن حق العودة بالكلية لقراهم ومدنهم. وأن يُدفن الحق الفلسطيني – إلى الأبد – تحت تلك المباني الشاهقة، ولتبدأ إسرائيل في رحلة أخرى.. للهيمنة على المقدرات العربية.. من المحيط إلى الخليج.
في «لا-عقيدة» الرجل، وكما توهَّم أنه غيَّر التاريخ والجغرافيا.. بتغيير اسم لخليج على خريطة،فبأمر تنفيذي مماثل اسمه «السلام الإبراهيمي»،سيمرر صفقته للقرن،يمحو الحق التاريخي لشعب في وطنه،يُصَفِّي قضيته، ويغير في ميزان ضمائر البشر، وفطرتها. يؤمِّن لمحتل مغتصب.. سرقته، ويضمن له.. أن ينعم بجرمه. ولا بأس أن يطمح بكل هذا.. أن يدخل التاريخ عُنوةً كفارس سلام!!
قد تكون تلك مناورته. قد يفلح بعضها، وقد تفسد كلها. ولكن ذلك لا يغير من السؤال الحال لنا جميعاً.. وهو: ما حقيقة الصراع الذي نحن فيه؟! ما مآله وما تعريف النصر فيه؟! ما الذي يدفعنا إلى بذل الأرواح والأوطان.. في مواجهات قاربت المائة عام؟!
هل البقاء أحياء كالسائمة؛ نحرز بعضاً من فتات العيش، وفتات الأمن، وشبه الحرية، واللاكرامة.. هو ما من أجله كل هذا الصراع، وكل ذلك العنت، والقبول بأسوأ ما فينا.. ليحكم فينا؟!
هل إحراز موقع التبعية والعبودية – في منظومة دول.. ترى أنها كبرى، وأنَّا صِغار.. فاقدو أهلية، تلزمنا الوصاية على حياتنا، وأوطاننا، ومقدراتنا – هو المرتجى؟!
أم أن «نحيا حياة.. كالحياة» – كما يقول محمود درويش -حياة أناس أحرار، عدول، مكرمين، ذوي سهم في بناء حضارة.. أناس يقتفون السعادة، ويحرزونها.. بحثاً ومقاربة ووصولاً.. هي المقصد؟!
فإن ادعينا أننا نريدها حياة كالحياة، فلنواجه عوار أنفسنا. فلنواجه مخاصمتنا للعلم والفكر. فلنواجه احتفاءنا بالجهل وأهله. فلنواجه قعودنا وقلة همتنا.. فلنواجه بأسنا الشديد بيننا. فلنواجه قلة أهليتنا. فلنواجه عدميتنا.. المدعاة حيال كل جهد توجب علينا. فلنواجه فساد أولوياتنا، ودوام شكوانا.فلنواجه إعذارنا.. لمن لا يستأهل عذراً، واستنزافنا العقول والقلوب.. في ترهات ليست من العلم، ولا الدين، ولا الحياة في شيء. فلنواجه إفراطنا في انبطاحنا.. في غير موقع، ولنراجع تبريرنا لموت ضمائرنا.. حيال كل ما يلزم أن تحيا من أجله الضمائر.
أما مُدَّعو البراجماتية،وضرورات التعايش مع الواقع.. كما فُرِضَ علينا، ولَعْن كل فعل مجاهدة.. يقاوم بؤس الواقع، ويقتفي بعضاً من كرامة وإنسانية وحرية،فليبحثوا عن تخريجات أخرى.. لعقائد خنوعهم. فظني، أن «ترمب» لن يُبقي عزاء لأحد، إلا لمواجهة الحقيقة؛حُلفاءً أو خصوماً.. تابعين منسحقين أو أناسي أصحاب كرامة.
يبدو أن الحقبة «الترمبية»..ستكون صداماً بين شبق «الأكثر»،الذي يريده لنفسه.وقهر «الأدنى»، الذي يريده لكل من حوله!
سيبالغ «ترمب» في مزايدةٍ حَدَّ القهر.. حَدَّ التأله.. حَدَّ الخبل.. حَدَّ الجنون.. حَدَّ التوحش.. حَدَّ القسوة.. حتى يفهم أن كل ذلك لن يُجدي!
أما عالمنا العربي – كشأن غيرنا – فيلزم ألا يستنيم إلى الانزلاق نحو دركات.. أدنى من الإذعان، أو التراخي، أو التنازل، أو المذلة، أو الرخاوة.. حتى نعي أن كل ذلك لن يَشفع!
الحقيقة التي سنواجهها.. بوقع الصدمة لا بِهَدي المنطق،هي أن «الأكثر» مسقوف،وأن «التدني» له قاع!
وأن وهم الاستزادة من السطوة والجبروت، لا يضمن بقاءً. وأن سراب الاستنامة إلى الانسحاق ومسخ العقل.. لا يُعَدُّ أماناً!
فَكِّرُوا تَصِحُّوا..
نقلاً عن «المصري اليوم»
الحِقبةُ الترمبية

شارك هذه المقالة