Times of Egypt

الحرف في وجه السيف.. المعادلة الصعبة التي نعيشها (3-3)

M.Adam
عمار علي حسن

عمار علي حسن

بعد ما يزيد على ثلاثة عقود من احتراف الكتابة، أرى تجربتي الإبداعية – في مساراتها وروافدها المتعددة – لا تزال سارية وجارية، لم تبلغ نهايتها بعد، ولا أتمنى لها أن تتوقف.. إلا بموتي. بل، وبمعنى أدق، توقفها هو الموت عينه، بل أشد أنواع الموت قسوة.

الحقيقة أن جسدي يتداعى.. مع تقدم العمر، ويبدو عاجزاً عن حمل أحلامي، وأخشى خيانته، وأرى أن الوقت أقل كثيرًا.. من أن يستوعب ما في رأسي من كتابة؛ سواء كان أدباً، في الرواية والقصة والمسرحية والشعر والنص العابر للأنواع، أو في العلوم والدراسات الإنسانية على اختلافها. ولهذا يراني الناس – من رفاق الكتابة أو القراء – أسابق الزمن.

في كل هذا أطبِّق – في وجه أي استبعاد أو تهميش أو حصار – شطر الشعر الذي قاله محمود درويش وهو «حريتي أن أوسع زنزانتي». وسبق لي أن كتبت مقالاً، وطورته وظهر في مقدمة طبعة جديدة منقحة من كتابي «النص والسلطة والمجتمع.. القيم السياسية في الرواية العربية».. عن هذه الفكرة، فتعلمت كي أستفيد، كما تعلمت أيضاً مما أوردته في كتابي «التغيير الآمن».. عن أنماط من «المقاومة بالحيلة». وقبل كل هذا، أواجه أي حصار لكتاباتي بمزيد من الكتابة، وأعول على زمن آت.. يُكسر فيه الحصار، أو تفلت الكتابة نفسها منه، وتحاصره، عملاً بما قال درويش أيضاً: «حاصر حصارك».

وحتى لو أحكم الاستبعاد قبضته، فليس بوسعه أن يجعلني أكف عن الكتابة؛ ففضلاً عن أنها تحقق دور العام، فهي بالنسبة لي.. خلاص فردي، بل هي شفاء. يمكن للكتابة أن تكون بحثاً عن خلاص، أو إحدى الطرق المهمة الساعية إليه، لكن هذا لن يتحقق سوى في الواقع. 

أما الشفاء فهو ثمرتي الذاتية من الكتابة، ولا نكران لذلك – إلى جانب ثمرة أخرى، وهي أن ما تتقوت به أسرتي الممتدة، وهي معلقة في رقبتي وأنا ملزم بها، لا يأتي من أي باب سوى ما أكتبه – فأحمد الله عليها.. مهنة ومهمة وموهبة.

وفي أحلك الظروف، وعند الحد الأدنى، أقول إن المثل الأعلى لكل إنسان ذي ضمير.. هو طائر «اللقلق»، الذي حين رأى حريقاً هائلاً يندلع في الغابة، هرع إلى نبع ماء، وملأ منقاره، وألقى ما به على النار المستعرة.

حين رآه الفيل، سخر منه، وسأله:

ـ هل تظن يا مسكين أن قطراتك ستطفئ مثل هذا الحريق؟

أجابه اللقلق على الفور:

ـ أنا أؤدي واجبي، وأفعل ما أقدر عليه.

لو أننا جميعاً آمنا برؤية هذا الطائر الحكيم، فإن القطرات ستتجمع، لتصير نهراً.. يجرف أمامه النار التي تحرق أحلامنا، وتحول العالم بأسره إلى غابة تعج بالقبح والتوحش والبشاعة.

ورغم كل ما كتبت، فلا أجد نفسي راضياً عن ذلك؛ فالكاتب إن رضي عن نفسه، عاد مدبراً كل المسافة التي بلغها مقبلاً. أميل أكثر إلى أن أبحث عن الأفضل دوماً، ومع كل عمل أكتب، آخذ نفسي بالجدية، كأني لا أزال في أول الطريق أريد إثبات نفسي.

وأكذب، لو قلت إنني قد وضعت حداً صارماً لرؤية أو مسار، فالكتابة في ذاتها فعل.. يكره الحدود والسدود والقيود. وأي كاتب لا بد له أن يقصد الوصول – بما كتب – إلى جميع من في الأرض، إن استطاع إلى ذلك سبيلاً؛ حال أن يكون إبداعه الأدبي أو الفكري يلبي احتياجات راهنة أو مستقبلية.

طوال الوقت أتصرف على أن العمر أقصر من أن يكفي.. لكتابة كل ما في رأسي من صور فنية وأفكار، لكن أشعر أنني منذور لشيء – أو أمر – لا بد لي أن أمضي إليه بلا توقف؛ إنه مواجهة القبح، والخواء الوجداني، والتردي الأخلاقي، وكل ما يجعل شروط العيش قاسية، ويقتل في الناس إنسانيتهم، ويفتح أبواب العنف الاجتماعي والسياسي، ويجعل التاريخ يتقهقر إلى الوراء، أو يمضي داخل دائرة محكمة.. لا يستطيع الفكاك منها، حتى لو كان تاريخي أو مساري الشخصي.

ورغم كل ما جرى في نهر حياتي.. من مياه غزيرة، لا أزال أرى نفسي عامل التراحيل؛ الذي عليه أن يكدح طويلاً.. حتى يحصل على القليل، ثم يحمد ربه عليه، رافضاً كل ما يأتيه بلا عرق أو كد، وزاهداً في ما هو بيد غيره، وساعياً – على قدر استطاعته – إلى أن يمشي على الأرض هوناً، لكن لخطوِه علامة؛ قد تكون كلمة كتبها وقرأها أحد الناس.. فشحذت خياله وأمتعته وأفادته. وقد تكون مسرباً قد شقه قلمي الذي – لا حياة لي بدونه – في قلب صخرة صماء؛ منذ صاحبني والورق.. حتى كتبت رواياتي وكتبي، التي أوصيت أسرتي أن تأخذ نسخة من كل منها، لتدفن إلى جواري.. هناك بين الجبل والنهر، بعد أن تفارق روحي بدني.

نقلاً عن «المصري اليوم»

شارك هذه المقالة