عمار علي حسن
طالما أضبط نفسى.. غارقاً في سؤال عويص حول دوري في الحياة؛ شأني كهؤلاء الذين يرفعون القلم في وجه الشر والقبح والظلم والتخلف.. مهما كانت الصورة التي يأخذها أياً منها.
سؤال يوخزني كشوك مسنون، ويطلق جمراته في شراييني، ألا وهو: هل للأفكار والتصورات والرؤى والتعبير عن المشاعر.. الغلبة، أم للرصاص؟ وأي وقت يستغرقه اعتراض كتاب وأدباء ومفكرين وفلاسفة.. على فعل شرير، حتى يؤتى ثماره؟
أقول دوماً إن السير في هذا الاتجاه، يجعلنا نغطس عميقاً.. بحثاً عن مرجعية راسخة تفسر ما نحن فيه. هذه ليست محنتي وحدي.. ككاتب، إنما تطول الجميع – أياً كانت أدوارهم في الحياة – بل تطول العالم بأسره؛ الذي يبدو فيه التفكير الذي يحض على الخير والتفاهم والعيش المشترك والتقدم والنهوض.. عاجزاً – وبشكل مخز – أمام القوة المادية القاهرة؛ سواء ارتدت ثوب الاقتصاد حين يتوحش، أو اكتست برداء الدم.. الذي يأتي في ركاب السلاح.
يا لعجز القلم.. في مواجهة السيف؛ لاسيما إن كان المتحكم في قبضته، ويشرعه في وجه الناس، لا يدرك معنى، ولا يندهش لمجاز، ولا تخطفه صورة ساحرة.
أقف أحياناً أمام المرآة، في ساعات القنوط التي سرعان ما أطردها، وأقول لنفسي: الحقيقة التي لا مراء فيها.. أن الأفكار الطيبة في عالمنا المعاصر، لم تعد قادرة على إحداث التغيير إلى الأفضل.. بوجه يكافئ طغيان المادة في سرعته وشموله، وتمكنه من اجتياح كل شيء في طريقه، وتحويل حياة الناس إلى جحيم، إن كان هناك من يريد ذلك، وفي يده السلاح والمال.
أستعيد أصواتاً مجهدة، وحروفاً مرتعشة.. لمفكرين وأكاديميين وكتاب، يعترضون على هذا النزيف المستمر للروح والأخلاق.. في هذا العالم الذي يزداد توحشاً، لكن ما يقولونه.. ليس بوسعه أن يعدل دفة الأمور نحو الرحمة والسكينة، مثلما فشل من قبل.. في الانتصار للقضايا الكبرى في حياة البشر، التي تدور بالأساس.. حول قيم الحرية والعدل الاجتماعي والكفاية والتعاون.
كان هذا واضحاً، وبشكل فج، دفع واحدة من حائزات نوبل في الآداب، وهي الكاتبة الإنجليزية دوريس ليسينج، إلى تأليف كتاب قليل في عدد كلماته، كثير وعميق في معناه، سمته «السجون التي نختار أن نحيا فيها»؛ إذ رأت أن البشرية.. تعيد تدوير القمع والقهر والقتل والظلم بطرق متجددة.
أتذكر يوم قرأت هذا الكتيب، كم سكنني حزن دفين، لاسيما بعد أن ملأت الفراغات المتروكة في الكتاب، لأكتشف أن المآسي يعاد إنتاجها.. في التاريخ البشري المتواصل، أسرع من صناعة العصائر. وأدرك أن الحكمة والنصيحة.. لو عمل بهما منذ أول الخليقة، ما وصل البشر إلى المستنقع.
أعرف أن أية حقبة في تاريخ البشر.. لم تخل من منتجي معرفة وفن، يحض على الفضائل، لكن صوت هؤلاء يبدو خافتاً في وجه الضجيج المدوي الذي تحدثه زمجرة السلاح، ورنين المال أو رفيفه، فهذا وحده من يقدر بشكل سافر ومباشر وجهوري، ويقرر بالطريقة نفسها، ويفعل ما يشاء في واقع الناس.
ما يصبرني كل مرة.. ينطلق فيها شوك السؤال وجمره، أنني أعرف أن الكلمات تحدث تغييراً متمهلاً، ويعول أصحابها على أن تكون نتائج ما يقولونه ويكتبونه.. أكثر رسوخاً، وأقول لنفسي في ثقة عجيبة: الأدب لا يغير المجتمع مباشرة.. كالاقتصاد والتشريعات القانونية والقرارات السياسية، لكنه يساهم في تعميق وعي الناس، فيغيرون واقعهم إلى الأفضل، وهذا إن كان بطيئاً في أغلب الأحيان، لكنه راسخ، إذ يجعل التغيير طوعياً، ونابعاً من الذات الفهِّيمة المقتنعة، فتثبت في دفاعها عما تؤمن به، أكثر من أولئك الذين يذعنون للقوانين، وتجبرهم الظروف المادية، أو هيبة السلطة، على تبديل مواقفهم.
يعطيني هذا التصور.. جرعة هائلة من التفاؤل، بل يطير بي إلى مكان أبعد في التاريخ الذي مضى، والأيام الآتية، فأسأل نفسي: من قال إن أرباب القلم في ذيل القائمة، وفي خلفية الصورة؟
وأجيبها وأنا أسحب شهيقاً طويلاً، وأطلقه زفيراً.. في وجه كل ما يضنينا: تاريخ الأمم لا نعرفه فقط.. بكبار الساسة من الملوك والرؤساء، بل بالبارزين من علمائها وأدبائها ومفكريها وفنانيها. فحين يرد إلى ذهننا اسم بريطانيا مثلاً، سنجد أن اسم شكسبير سيكون أسبق إلى التذكر من تشرشل، بل إننا لا نتذكر أغلب أسماء الملوك والرؤساء في تاريخ البلاد، بينما لا ننسى أهل العلم والأدب، فنحن نعرف ابن خلدون والمتنبي والرازي والشافعي والحلاج وابن سينا والفارابي وابن عربي، أكثر من أسماء كثير من الخلفاء والملوك والسلاطين والأمراء.
لهذا يصبح عبثاً وعيباً وخطأ وخطلاً.. ما يفعله من يتوهمون أن كل شيء خارج فعل الساسة وقادة الجند، لا يجب التوقف عنده، وأنه مجرد كلام يمكن الاستغناء عنه. إن مثل هذا التصور المعيب هو السبب الأول في تخلف الأمم وانحدارها.
لكن لا أنكر.. أن هناك من يطفئ هذه الشمعة الذابلة – التي تنير لي الطريق بالكاد – فيهجم الظلام عارماً، وأدرك أن في كل مرة يبني الطيبون من أرباب القلم.. تلاً من العبارات الساعية إلى الروحانية والخلقية والخيرية، يأتي قصف طائرة حربية، أو دبابة أو مدفع – أو صفقة تجارية تتضاعف أرباحها، أو تجارة غير مشروعة أو ممارسة في سوق سوداء – ليهدم هذا التل في وقت يسير، ويكون على أصحاب الكلام أن يعيدوا البناء من جديد، في انتظار هدم آخر، وهكذا في جدل، بل صراع، لا يخلو أي زمن له من دم ورماد.
(نكمل الأسبوع المقبل إن شاء الله تعالى)
نقلاً عن «المصري اليوم»