Times of Egypt

الحداثة القانونية المعاقة في عالم مختلف

M.Adam
نبيل عبدالفتاح

نبيل عبدالفتاح..

لعبت الدولة دوراً محورياً في التوسع الرأسمالي في فرنسا، وفي بريطانيا – ومعها وعبرها – توحدت المقاطعات، فتحققت وحدة السوق الرأسمالية، وتشكلت الأمة – وفق المفهوم السياسي، والاجتماعي والاقتصادي، والثقافي – ومع الحداثة السياسية، ودولة القانون والحق؛ كانت الصراعات الاجتماعية حول المصالح، تدور داخل الدولة وأجهزتها، بل وفي النظام السياسي الديمقراطي التمثيلي.
التحول إلى دولة الحريات الفردية والعامة، كان جزءاً لا يتجزأ من الثورات الأوروبية – كرومويل، والفرنسية- ومن ثم تم تأسيس الدولة البورجوازية، والصراعات عليها وبها، على نحو أدى إلى تطورات مع الرأسمالية، التي حفزت مع ميلاد الفرد، والمذهب الفردي، ومن ثم إلى إقرار حرياته الفردية والعامة.
هذه التحولات – التي أدت إلى تأسيس دولة القانون والحريات – كانت تعبيراً عن أثر التطورات التكنولوجية، والعلمية، وفوائض القيمة من العمل الاستغلالي، وفي إطار العلاقات الاجتماعية.
لم يكن القانون الوضعي الحديث.. منعزلاً عن تأثيرات التطورات الحداثية، ومراحلها التاريخية المعرفية، والفلسفية، وفي العلوم الاجتماعية، والأدبية، والأسلوبية، وإنما حدثت بعض التأثيرات المهمة؛ لأن المراحل الأولى، والثانية، والثالثة.. من الحداثة الغربية، كانت تموج بالجدل الفلسفي، والسوسيولوجي، والأدبي، والفني.. المؤثرة. إلا أن بعض هذه التأثيرات، كان يتسم بالمحافظة النسبية، والتعديلات الجزئية على الدساتير، وفلسفة القانون، وسياساته التشريعية؛ لأن النزعة الوضعية القانونية، والطابع الشكلاني في إنتاج النصوص القانونية، وطابعها التجريدي، وتطبيقاتها في ضبط السلوك الاجتماعي، والإداري لأجهزة الدولة.. ظل مسيطراً على دراسة وتفسير القوانين واللوائح الإدارية وتأويلاتها، وأيضاً على العمل النظري والتفسيري لعلماء القانون، والسلطة والمؤسسات القضائية وأجهزة الدولة المختلفة.
النزعة الوضعية القانونية.. في إنتاج القوانين وتفسيرها وتأويلها، كانت تخضع للمصالح الاجتماعية المسيطرة داخل الدولة ذاتها والنظام؛ حتى في ظل مراعاة بعض الانحيازات النسبية لمصالح القوى الاجتماعية العريضة.. للعمال والفلاحين والبورجوازية الصغيرة، وذلك حفاظاً على استقرار الدولة وسلطاتها، وأجهزتها المختلفة، ومصالح القوى المسيطرة، ومعها المجتمع. ثمة أيضاً الأدوار المتنامية..التي لعبتها الأحزاب السياسية، والنقابات العمالية والمهنية؛ في ممارسة الضغوط.. أثناء عمليات إعداد القوانين، ومناقشاتها داخل المجالس النيابية، وإقرارها وإصدارها ونشرها رسمياً.
مع الثورات التكنولوجية، والتطورات الرأسمالية، ومعها علاقات الإنتاج.. ظلت النزعات المحافظة مسيطرة، وتمددت الدولة وأجهزتها – في تفاصيل الحياة، والعلاقات الاجتماعية، والسياسية، والاقتصادية – ومن ثم على إنتاج القوانين المنظمة لها. وفي ذات الوقت.. حدثت قفزات مهمة مع المواثيق الدولية لحقوق الإنسان، وحركاتها التي أدت إلى تطور وتنوع الحقوق والحريات العامة والفردية، خاصة في مجال حقوق المرأة والمثليين… إلخ!، اعتماداً على ركائز هذه المنظومات في المجتمعات الأوروبية، وأمريكا الشمالية.
ثمة اختلالات وفجوات لا تزال قائمة في قوانين الدولة الرأسمالية.. فائقة التطور، من زاوية المصالح التي ينتصر لها المشرع، ومعه توجهات بعض المؤسسات القضائية.. في تطبيقها القوانين على المنازعات المرفوعة إليها.
الأهم، أن مبادرات ومشروعات غالب القوانين، باتت تقدمها السلطة التنفيذية، والحكومات المنتخبة -ومعها بعض رؤساء الدول في الانتخابات العامة التشريعية.. كما في النظام شبه الرئاسي الفرنسي وتعديلاته في الجمهورية الخامسة – وتراجع بعض أدوار الأحزاب السياسية.. الممثلة في المجالس النيابية، في تقديم مشروعات القوانين.. المعبرة عن المصالح الاجتماعية التي يمثلونها، وأحزابهم السياسية، وأيضاًإثر ثورة وسائل التواصل الاجتماعي والرقمنة.. على ضعف بعض الأحزاب السياسية في تمثيل المصالح، والتعبير عنها.
القانون الغربي الوضعي- الحديث والمعاصر – كان جزءاً من الحداثة السياسية، ومن ثم الحداثة في جميع مصادرها المعرفية والفلسفية والفنية والأدبية، وتجلياتها، وساهمت الحداثة القانونية أيضاً في تطور المجتمعات والفكر الحداثي، على الرغم من طابعها شبه المحافظ.
الحداثة القانونية الوضعية في مصر.. ساهمت في التحول إلى الدولة الأمة الحديثة -الاستثنائية عربياً – من خلال استعارات الهندسة القانونية الأوروبية الفرانكفونية، في التحديث السلطوي للقيم، وبناء أجهزة الدولة البيروقراطية، والجيش الوطني-إبراهيم باشا- وفي دمج الاقتصاد المصري، وتجارة القطن، بالنظام الرأسمالي الدولي آنذاك. ارتبط القانون المصري الوضعي الحديث بالتحديث المادي والمؤسسي، وأثر ذلك جزئياً على العلاقات الاجتماعية، وكان منحازاً للمصالح الاقتصادية والاجتماعية.. المسيطرة على تركيبة الدولة وتطوراتها، حتى مرحلة النظام شبه الليبرالي.
إلا أن النزعة المحافظة للوضعية القانونية، أثرت سلباً على وضع القوانين وتطبيقها، على الرغم من الدور المتميز للقضاء المصري.. في دعم الحقوق والحريات العامة. في ذات الوقت كان تطبيع– وتطويع – القانون الغربي..في الأنظمة القانونية الفرعية، تم من خلال ترجمة المصطلحات القانونية الحديثة.. الغربية المصادر التاريخية (البلجيكية والإيطالية والفرنسية)..من خلال استمداد بعض من أشباهها من الموروث اللغوي الديني والفقهي الإسلامي، في محاولة للتوفيق بين اللغة القانونية الغربية، وبين اللغة الفقهية الإسلامية الوضعية.
وهو نتاج لمحاولات الدولة.. في الاستفادةوالانتساب إلى الدين في العمليات التشريعية، ونتاج للصراعات على الدين وبه.. في حياة الدولة والنظام والمجتمع تاريخياً.. منذ إدخال بعض التعديلات على نظام الشريعة جزئياً في عهد دولة محمد علي، والتغيرات الكبرى في عهد إسماعيل باشا.. ومابعد، وترك نظم الأحوال الشخصية للقانون الديني الوضعي.. للمسلمين والمسيحيين واليهود.في ظل النظام شبه الليبرالي، والتعدد الحزبي.. كانت مسألة الدستور وحمايته، أحد أبرز مطالب الحركة القومية الدستورية المصرية؛ خاصة في مجال الحريات، والفصل والتمايز بين السلطات.
عقب نظام يوليو، ورأسمالية الدولة الوطنية -أو الطريق اللارأسمالي للتنمية- ازدادت هيمنة الدولة على إنتاج التشريعات، وتوظيفها للقوانين.. في مصادرة الحريات العامة، والفردية، وفرض قيود باهظة عليها، وعلى المجال العام، وتحولت الدساتير –عربياً- إلى مجرد وثائق في البلاغة الدستورية الفارغة. ومع التحول إلى الانفتاح الاقتصادي والرأسمالية ثم النيوليبرالية، باتت القوانين تعبيرا عن مصالح الطبقة الحاكمة، ومعها الرأسماليون الجدد، ورجال الأعمال من المستوردين للسلع والخدمات، وتمت تصفية قطاع الدولة في بعض البلدان العربية، على الرغم من أن هذه السياسة.. أدت إلى تراجع حركة التصنيع في عديد البلدان، ومن ثم انعكس ذلك سلباً على القيم، والعلاقات الاجتماعية.
القانون في العالم العربي، ومشكلات تطبيقه، وعدم تحقيقه لوظيفة الفعالية.. في ضبط السلوك الاجتماعي، وحماية الحقوق والحريات العامة والشخصية، أدى إلى تمدد بعض من الفوضى في الحياة اليومية، والعلاقات الاجتماعية؛ على نحو ساهم في فرض قانون الواقع، أو قانون اللانظام، ومن ثم فقد أدواره في التنظيم والضبط الاجتماعي، ولم يعد مؤثراً في تطوير العلاقات الاجتماعية والقيم الحداثية.
ومن ثم أثر ذلك على المسارات شبه الحداثية – التيسادت منذ استعارة أنظمته الأساسية الأوروبية، – ومن ثم إعاقة المجتمعات العربية.. من استكمال هذه المسارات شبه الحداثية؛ خاصة مع تشكيك الاتجاهات الأصولية الإسلامية السياسية والراديكالية.. في القانون الوضعي الحديث؛ من منظورات دينية سياسية وضعية.. في مواجهة دولة ما بعد الاستقلال الوطني، وكجزء من استراتيجيات جحد شرعية هذه الدول دينياً، وتوسيع الفجوات بين الدولة والمجتمع، ومحاولات فرض هندسات دينية وضعية ونقلية على المجتمع، والأشخاص وحرياتهم.. دون مراعاة للتطورات والتحولات الكبرى في عالمنا المعاصر؛ التكنولوجية والاقتصادية، والفكرية والقانونية، ولمفهوم الدولة ذاته، وهو ما تطرحه الجماعات الإسلامية السياسية.. في أدبياتها المختلفة، على نحو يعطي لقطاعات اجتماعية واسعة.. مبررات للخروج على قانون الدولة.
نقلاً عن «الأهرام»

شارك هذه المقالة