أحمد الجمال
لا يقتصر جهل الإخوان – ومن على شاكلتهم ومن مشربهم المرجعي – على مجالَي التاريخ والسياسة، وهو ما حاولت تفصيله في مقال سابق، بل يتعدَّى ذلك إلى مجال جوهري.. هو المرجعية التي يجب أن يرجع إليها المجتمع في تنظيم شؤونه على الأصعدة كافة، والمعيار الذي تقاس عليه الأمور، لأننا إزاء مرجعية تدينية معيارها هو الحلال والحرام وفق ما يعتبرونه – من وجهة نظرهم – صحيح الدين، في مواجهة مرجعية دستورية معيارها هو الصح والخطأ؛ وفق ما تحويه مواد الدستور والقوانين المنبثقة منه، أي ببساطة يكون المعيار هو «قانوني.. أم غير قانوني».
سأضرب مثلاً حياً صادفته، ويصادف كثيرين، ويوضح مدى الكارثة التي ضربتنا وتضربنا في صميم جوهر وجودنا المجتمعي، إذ أقيم في تجمُّع سكني في القاهرة الجديدة، أنشئت فيه البنايات الموزعة بين عمارات وبين فيلات.. وفق طراز معماري معين؛ حدد شكل الواجهات ولون طلائها وشكل النوافذ ولونها وهلم جراً من قواعد معمارية، وأيضاً قواعد للتعامل مع المساحات الخضراء والشوارع والمداخل والمخارج، ومع المرافق الأخرى الملحقة من قبيل «السوق.. والصيدلية.. وكي وتنظيف الملابس وغيرها».. وفجأة ظهر وبإصرار من يعمد إلى تغيير شكل ولون الواجهة، ويضيف مباني بارتفاعات ومساحات غير قانونية.. وتبدو نشازاً بل شذوذاً. عدا عن التعامل مع القمامة – بإلقائها وتكديسها في غير أماكنها – وبالمرة تربية طيور داجنة وحيوانات.. في أماكن غير مخصصة لذلك، وحتى المسجد المبني داخل التجمع السكني تجد الأشخاص أنفسهم.. المسيطرين بثمانية مكبرات صوت مضبوطة على أقوى درجة صوت.
حدث أن تمت مراجعة أولئك، فكان الاحتكام المباشر لعبارة «ليس ما فعلناه حراماً ولا ممنوعاً شرعاً، ولا حتى مكروهاً يُغضب الله».
تعال حضرتك لتشرح أن المعيار.. هو قانوني أم غير قانوني، ومتوافق مع القواعد المنظِّمة للبناء والطلاء والنظافة، أم غير متوافق.. ليأتي تأكيد الرد بمنطق الحلال والحرام.. وحتى في معضلة مكبرات الصوت والقواعد – التي وضعتها الأوقاف لاستخدامها وتوقيت ذلك، وما يبث منها وما لا يبث – يأتي الرد بأن ذلك لنشر دين الله ولتنبيه الغافلين، فإذا احتكمت للنص القرآني «ولا تجاهر بصلاتك ولا تخافت بها»، و«إنّ أنكر الأصوات…» وأن الأذان جزء من الصلاة التي.. لا يجب المجاهرة بها بصوت الإنسان، فما بالك بمكبرات الصوت؟ جاءك الرد عملياً بالإمعان في الفعل واعتبار ذلك من صميم الدين.
ذلك المثال المُعاش البسيط.. يطرح خطورة جهلة التاريخ والسياسة.. بامتداد جهلهم وشيوعه في المجتمع، وتمكُّنه من عقول الناس وسلوكياتهم، نحن إذن في محنة مجتمعية.. عبر العصف بالدستور والقوانين، واعتماد مرجعيات أخرى، لا تنحصر في الإخوان والسلفيين.. وكل من هو من مشربهم، وإنما تمتد إلى من أسميتهم في المقال السابق مُدعي «الليبرالية السياسية»، وأضيف إليهم اليوم كل مُدعي وزاعمي امتلاك معايير خاصة، مستمدة من أيديولوجياتهم ومعتقداتهم الخاصة؛ مثل الاشتراكيين الثوريين وكل العدميين.. الذين يشرعنون أفعالهم ومواقفهم وتحركاتهم وهتافاتهم، بأنها حتمية.. لتحقيق زوال الدولة والسلطة، وضمناً سقوط الدستور والقوانين، والوصول للتغيير الذي ينشدونه.. من خلال تعميم وتوسيع الفوضى والعنف.
وهكذا تجد الأمة نفسها.. إزاء تحدٍّ هو خطر تدمير الوطن من الداخل، فيما محيطه كله، إما سقط.. ومازال لهيب الدمار والقتل ودوي السقوط مستمراً فيه، وإما متواطئون شامتون.. يريدون بدورهم تقويض وإنهاء الدور المصري الحضاري والتاريخي والثقافي وأيضاً السياسي. ولا يفطنون إلى أن المضامين الحضارية والأدوار الثقافية والاستراتيجية.. لا تأتي مصادفة ولا تُشترى أو تباع؛ لأنها تراكمات كمية، وتغييرات كيفية هائلة.. تتراكم طبقة بعد طبقة، أو دورة بعد دورة، لتكون سبيكة أو ضفيرة تستعصي على التفتت والتفكك.
لقد أصبح واجباً على العلماء والباحثين.. في مجال التاريخ والعلوم الاجتماعية والإنسانية؛ بذل مجهود علمي صارم المعايير.. للوصول إلى آلية المسار الذي وصل بمصر، إلى تكريس تعدد المرجعيات والمعايير.. في حياة مجتمعها، ووضع معيار «الحلال والحرام» في مواجهة معيار «دستوري وقانوني أم لا»، لأن الخلل.. انعكس وتغلغل في عمق المجتمع، وصار ارتكاب مخالفات جسيمة في البناء والارتفاعات، وتجاه أرض وممتلكات الدولة.. وصولاً إلى الفساد والإفساد و«الأنامالية» وغير ذلك.. مباحاً، بمنطق أنه ليس حراماً، دون أن يفطن المجرم إلى أن هدم النظام العام، ومخالفة القانون، وإشاعة الخطأ، وغيره من الجرائم.. هو من صميم الحرام المؤثَّم.
لعل هؤلاء وأولئك يذكرون الأثر الشريف، الذي ضرب مثلاً بمن يملكون سفينة، وأبحروا بها في البحر، وجاء أحد من يملكون ليثقب السفينة.. زاعماً أنه حر فيما يملك؛ أي أن مرجعيته هي ما يراه صحيحاً وحقاً له، فلو تركوه لغرقوا وغرق، ولو ضربوا على يديه ومنعوه لنجوا ونجا.
نقلاً عن «الأهرام»