سمير مرقص
«إذا كانت الجغرافيا هي العلم المعني.. بدراسة الأرض والظواهر الطبيعية والبشرية على سطحها، والاقتصاد هو العلم الذي يهتم بدراسة عملية إنتاج وتوزيع واستهلاك السلع والخدمات، فإن الجغرافيا الاقتصادية تدرس سطح الأرض.. باعتباره مدخلاً من مدخلات الاقتصاد، وتدرس في الوقت نفسه الإنتاج الاقتصادي بمعناه الواسع، وبما له من ارتباط وثيق بالموارد وتوزيعها الجغرافي والمكاني».
تلك كلمات شارحة لمعنى الجغرافيا الاقتصادية، نقتطفها من نص مرجعي مبكر بالغ الأهمية لعالم قدير وشيخ جليل غادرنا قبل أيام.. هو الدكتور محمد رياض (1927 ــ 2025) بعنوان: «الجغرافيا الاقتصادية وجغرافية الإنتاج الحيوي».
في هذا الكتاب، الذي شاركت الدكتور محمد رياض تأليفه زوجته الأستاذة الدكتورة كوثر عبدالرسول، وطُبع للمرة الأولى قبل ثلاثين عاماً، وأعادت نشره نشراً رقمياً مؤسسة هنداوي عام 2015، يلفت شيخنا وعالمنا.. النظر مبكراً إلى أهمية مفهوم الجغرافيا الاقتصادية، والأثر العميق للعلاقة التبادلية المنافع.. بين الجغرافيا والاقتصاد، في إحداث تحولات جذرية في البنية الاقتصادية العالمية، تعيد توجيه مصائر الدول والمجتمعات والشعوب.
وقد رأيت – تقديراً وتكريماً لاجتهادات الدكتور محمد رياض، الذي ظل يبدعها حتى رحيله – أن أستعيد بعضاً مما طرحه مبكراً.. حول معنى الجغرافيا الاقتصادية، ليكون مدخلاً للنقاش الذي بدأناه في مقال الأسبوع الماضي، ونتممه اليوم، حول الدراسة البالغة الأهمية التي نشرتها دورية فورين أفيرز الأمريكية (عدد سبتمبر/أكتوبر 2025) لرئيس معهد بيترسون للاقتصاد الدولي «آدم بوسن»: الاقتصاد الجغرافي الجديد: من الرابح في عالم ما بعد أمريكا The New Economic Geography: Who Profits in a Post – American World؛ حيث يشرح فيها «التحول الجذري» الذي طال «المشهدية» الاقتصادية العالمية، وما سيترتب على هذا التحول من تداعيات.. ليس على الولايات المتحدة الأمريكية فقط، وإنما على العالم كله.
تنبع أهمية دراسة «بوسن» من أنها تكشف عن أربع حقائق تمثل تحولاً جذرياً في عالم اليوم؛ أول هذه الحقائق أننا نعيش جغرافيا اقتصادية جديدة، تعيد رسم خرائط الإنتاج والتوزيع. والثانية أنه وبفعلها سينتقل العالم – إن لم يكن قد بدأ ينتقل بالفعل ـ إلى مرحلة ما بعد أمريكا؛ ما سيترتب عليه، وهذه هي الحقيقة الثالثة تأسيس نظام اقتصادي عالمي.. مغاير لما سبقه. ومن ثم، تأتي الحقيقة الرابعة.. التي تتمثل في بروز لاعبين جدد ـ دول صاعدة، وشركات ضخمة عابرة للقارات ـ تتهيأ لاعتلاء مقدمة المسرح الدولي، غير تلك التي احتلت صدارته منفردة: الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها الأطلسيين منذ الحرب العالمية الثانية.
إن هذه الحقائق الأربع مجتمعة، تصب – في جوهرها – ضمن ما يجري في عالم اليوم.. ليس مجرد حرب تجارية تفضي إلى اختلالات في الموازين التجارية، وإنما هو تحول جذري في موازين القوى الاقتصادية/المالية/التجارية، يؤسس لخرائط جديدة للعالم (جغرافيا اقتصادية جديدة)، ترسم حدودها الأقطاب؛ الدول الصاعدة الجديدة، وما تشرع في تشكيله من تكتلات اقتصادية جديدة، في شتى أرجاء الكوكب.
يقدم الباحث مثالاً عملياً.. لتوضيح دينامية التحول البنيوي الجارية اليوم للنظام الاقتصادي العالمي، الذي ساد العالم على مدى ثمانين سنة؛ وذلك كما يلي: « تخيل أنك كنت محظوظاً، لأن ترث قطعة أرض مطلة على المحيط. تمنحك مناظر رائعة، وتتيح الوصول إلى الشاطئ. لكنك لم تقدم على بناء منزل فاخر فوقها.. إلا حين ظهرت شركة منضبطة وموثوقة ،عرضت تأميناً منزلياً كافياً. صحيح أن كلفة هذا التأمين كانت باهظة، لكنه شجع أصحاب الأراضي المجاورة على البناء»،.. وعاش أصحاب هذه الأراضي بمنطق، يقول «بوسن» أنه، «طالما واصلوا دفع الأقساط التأمينية ضد المخاطر، فإن أي استثمارات إضافية في تلك الممتلكات.. ستكون قليلة المخاطر».
ويشرح بوسن المثل بقوله: «هذا هو الوضع الاقتصادي الذي عاشته معظم دول العالم قرابة 80 عاماً، وسمحت بموجبه الولايات المتحدة الأمريكية لنفسها.. أن تجني مكاسب ضخمة من خلال لعبها دور المؤمن العالمي المهيمن على النظام الاقتصادي العالمي ـ مباشرة، أو من خلال أذرعها المؤسسية المالية العالمية ـ منذ نهاية الحرب العالمية الثانية». وبفضل هذا الدور المهيمن، تسنى لها أن تبسط نفوذها.. ليس فقط على النظام الاقتصادي العالمي، بل أيضاً ـ بدرجات متفاوتة ـ على السياسات الأمنية للمنظومة الدولية. واليوم – وبعد ثمانية عقود – يتابع «بوسن» «تلاشى ذلك الشعور بالأمان، فالبيت المطل على البحر.. لم يعد كما كان: مستويات البحر ترتفع، والأعاصير تزداد ضراوة.
والمؤمن، لم يعد يكتفي برفع الأقساط، بل صار يرفض التعويض.. ما لم تدفع أضعاف الأسعار الرسمية، ورشاوى إضافية.. فيما تغطيته تزداد هشاشة والبدائل غائبة. وبالتوازي، تثقل الضرائب كاهل السكان، وتتراجع الخدمات العامة تحت ضغط الأزمات المتلاحقة».
إن هذا المثال المجازي، يكشف بدقة جوهر التحول الراهن؛ فالولايات المتحدة الأمريكية لم تعد ضامنة للاستقرار.. كما كانت بعد الحرب العالمية الثانية، بل أضحت عبئاً.. يفرض شروطاً قاسية، ويولد اضطراباً في النظام الاقتصادي العالمي.
صحيح أن هذا الاضطراب لم يكن وليد اليوم، إذ رافق كل الأزمات الاقتصادية/المالية المتكررة – التي بات يتعرض لها العالم بشكل منتظم منذ مطلع التسعينيات من القرن الماضي، في ظل سياسات الليبرالية الجديدة. بيد أن السياسات/القرارات الترامبية الاقتصادية/التجارية: الحمائية والانسحابية؛ جاءت، لا لتفاقم الاضطراب فقط، بل لتدفع نحو تحول بنيوي حقيقي في النظام الاقتصادي العالمي.. خاصة أن أضراراً قد لحقت بالحلفاء والخصوم على السواء، والأقطاب الكبرى القديمة والبازغة، وبالطبع دول الجنوب العالمي النامية والمتعثرة والفقيرة.
ما سيترتب عليه – حتماً – أن عالم ما بعد أمريكا.. سوف يتجه إلى تعددية مراكز إقليمية: جغرافيات اقتصادية جديدة؛ بحثاً عن شراكات تأمينية جديدة. ويختم «بوسن» أطروحته، الجديرة بنقاش وطني موسع، بسؤال مشروع.. يتعلق بالمستقبل، ويتجاوز سؤال من يحل محل الولايات المتحدة؟ إلى.. «كيف ستعاد هيكلة النظام الاقتصادي العالمي في ظل غياب ضامن وحيد؟». ويلمح إلى أن العالم يتجه نحو تعددية «غير مستقرة»، حيث تتعايش أشكال متناقضة من التعاون والصراع.
فهل ستقود هذه التعددية إلى نظام أكثر عدلاً وتوازناً، أم أنها ستعيد إنتاج صراعات كبرى بين مراكز متنافسة؟
نقلاً عن «الأهرام»