سمير مرقص
لا يختلف أحد من المهتمين بالتحولات العالمية.. على أن العالم يشهد لحظة تحول كبرى اقتصادية وسياسية. بل هناك من ذهب إلى تأكيد ما وصفه مبكراً العالم السياسي الفرنسي «برتان بادي» بـ«انقلاب العالم». فمن منا كان يشك لحظة – في أحسن الأحوال – أنه سوف يأتي يوم.. حسب أحد التقارير الاقتصادية التي قرأتها مؤخراً في دورية «المجلة»؛ ستتحول فيه الولايات المتحدة الأمريكية إلى «خصم للنظام التجاري العالمي الحر».. الذي أسهمت هي في تأسيسه – وقيادته – على مدى أكثر من قرن من الزمان.
ولا يتوقف الأمر عند حد الخصومة، بل تقرر في الزمن الترامبي – وهي راعية للتجارة الحرة لعقود – «أن تكسر الأواني كلها دفعة واحدة» (راجع خالد القصار، في المقال المتميز المعنون: حين تدافع الصين عن التجارة الحرة وتفرض أمريكا الحمائية «المجلة» مايو 2025)، كذلك تستبدل العلاقات التجارية المستقرة.. التي بنتها، خاصة في النصف قرن الأخير في ظل الليبرالية الجديدة-العولمة.. التي تبنتها وقادتها، «بنهج اعتباطي ومتقلب»، فتفرض رسوماً جمركية عالية، يصفها اقتصاديون معتبرون بالعشوائية، على واردات الصلب والألومنيوم من الحلفاء قبل الخصوم، وأن تخوض حرباً تجارية مفتوحة مع الصين، دونما اعتبار لمبادئ منظمة التجارة العالمية، أو حتى لأبسط قواعد التفاوض. ويصل «تخبط ترامب» – حسب القصار – إلى ذروته في الشهور الأولى من فترته الرئاسية الثانية، من خلال «أهدافه المتناقضة.. المتمثلة في انتزاع تنازلات من الدول الأخرى. في وقت يسعى حثيثاً لإعادة الوظائف الصناعية – تحديداً – إلى الداخل الأمريكي».
في هذا الإطار، يقدم لنا رئيس معهد بيترسون للاقتصاد الدولي «آدم بوسن».. دراسة قيمة للغاية في دورية «فورين أفيرز» (عدد سبتمبر/أكتوبر 2025) عنوانها: الاقتصاد الجغرافي الجديد: من الرابح في عالم ما بعد أمريكا The New Economic Geography: Who Profits in a Post – American World؛ يشرح فيها «التحول الجذري» الذي طال «المشهدية» الاقتصادية العالمية، وما سيترتب على هذا التحول من نتائج وتداعيات. يستهل «آدم بوسن» دراسته بوصف ما يجري في الاقتصاد العالمي «بالزلزال الضخم» Major Earthquake؛ إذ يتم تشكل اقتصاد عالمي جديد ذي ملامح مغايرة. فما اتخذه ترامب من قرارات، قد مس «جوهر النظام الاقتصادي الدولي» الذي ساد العالم – خاصة – منذ الحرب العالمية الثانية.
ولتحليل دلالات هذا الزلزال، لابد من تجاوز الأمور التقنية.. التي تتعلق بحجم التبادل التجاري، أو نسب الرسوم التجارية، وسلاسل التوريد والتجارة المتعلقة بالسلع المصنعة بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين. فالتركيز على هذه الأمور، يعد تركيزاً ضيق الأفق. كذلك الحديث عن أولية الدولة التي ستحتل رأس القائمة الاقتصادية لدول العالم، هو حديث لم يدرك بعد حجم ومدى التحول. ومن أهم ما يرصده الباحث – حول ما مس طبيعة النظام الاقتصادي العالمي – نذكر ما يلي: أولاً: إضعاف شرعية المؤسسات التي تدير النظام الاقتصادي على مدى عقود. ثانياً: الإخلال بالقواعد التي ارتضتها منظومة الدول التي أدارت العالم بعد الحرب العالمية الثانية. ثالثاً: الحضور الظاهر والمباشر والصريح للشركات – كبديل للدول – في إدارة الشأن الاقتصادي العالمي.
في ضوء ما سبق، يخلُص الباحث إلى أن ما يعيشه العالم اليوم.. « ليس مجرد تحول في موازين التجارة، أو صراع بين توجهات وسياسات تجارية، بل هو انتقال إلى «جغرافيا اقتصادية جديدة»، حيث تتحدد الأرباح والخسائر.. بطرق تختلف جذرياً عما كان سائداً في العقود الماضية» في ظل الهيمنة الأمريكية التاريخية.
(في هذا المقام، وتيسيراً للقارئ الكريم، نشير إلى أن أدبيات الاقتصاد الدولي تنسب مفهوم الاقتصاد الجغرافي الجديد (New Economic Geography – NEG) للاقتصادي الشهير الحائز على نوبل للاقتصاد عام 2008، وأحد نقاد الاقتصاد النيوليبرالي «بول كروجمان» (72 عاماً)، حيث حاول أن يقدم من خلاله.. إطاراً نظرياً لفهم التمركزات الاقتصادية، في مواضع جغرافية بعينها دون أخرى. أو ما يمكن تسميته اقتصاديات التكتل؛ وذلك لتوضيح أن الأنشطة الاقتصادية لا تتوزع عشوائياً في الفضاء، بل تتجمع في مراكز محددة.. حيث ترتبط الأسواق، والعمالة الماهرة، وشبكات النقل، والبنية التحتية. أي أن عوائد الحجم المتزايدة مع تكاليف النقل، تشكلان معاً قلب مفهوم كروجمان، وتفسران نشوء مراكز مزدهرة وأطراف مهمشة).
بلغة أخرى – وهو ما يحاول «بوسن» أن ينبهنا إليه – فإنه إذا ما استعدنا أثر السياسات التجارية الترامبية.. التي تم الأخذ بها تحت شعار الحمائية – وخصوصاً فرض الرسوم الجمركية على الصين والاتحاد الأوروبي – قد أدت إلى ما يسميه بوسن weaponization of trade policy. وأن هذه السياسة لم تضعف فقط التجارة العالمية، بل عمقت الشكوك في إمكانية الاعتماد على الولايات المتحدة.. كقوة تقود نظاماً مفتوحاً. وهو ما انعكس في تزايد توجه الدول للبحث عن بدائل، سواء عبر الاتفاقيات الإقليمية؛ كالاتفاقية الشاملة للشراكة الشاملة والتقدمية عبر المحيط الهادي (CPTPP)، أو من خلال تعزيز التعاون مع الصين والهند.
وهنا يرصد بوسن مفارقة كبرى.. مفادها: إن السياسات التي رفعت شعار «أمريكا أولاً»، انتهت في الواقع إلى «تقويض الأولية الأمريكية». وعليه فإن هذا التقويض، سوف يؤدي – ليس بالضرورة – إلى هيمنة بديلة، ولكن سيؤدي لا محالة.. إلى تعددية مراكز إقليمية. فالصين قد رسخت مكانتها كمحور اقتصادي في شرق آسيا، والاتحاد الأوروبي – رغم أزماته – لا يزال يمثل قطباً مالياً وصناعياً، في حين تبرز قوى صاعدة في الجنوب العالمي.. مثل الهند والبرازيل وتركيا.
وفي استعادة «آدم بوسن» لمفهوم «كروجمان» عن الجغرافيا الاقتصادية الجديدة، لم يتوقف عند الجانب الاقتصادي المحض، بل توسع في دراسته – عبر هذا المفهوم – لتشمل الجوانب الاجتماعية والسياسية والثقافية، التي ستواكب البعد الاقتصادي المستجد. ومن ثم حرص على دمجها في مقاربته المهمة؛ إذ يؤكد أنه لا يمكن – على سبيل المثال لا الحصر – الحديث عن توزيع الأنشطة الاقتصادية.. دون النظر إلى قضايا الاستدامة التنموية، وأثر التغير المناخي، والهجرات البشرية، والاختلالات البنيوية الاجتماعية والسياسية، وقضايا الفقر والجوع واللامساواة… إلخ.
ونتابع في مقال الأسبوع القادم.. رسم ملامح اقتصاد عالم ما بعد أمريكا.
نقلاً عن «الأهرام»