نيفين مسعد
في الجزء الأول من هذا المقال، تم الاستشهاد بالخُلاصة.. التي توصَّل إليها عالم الاجتماع المصري الدكتور سعد الدين إبراهيم؛ وجوهرها أنَّ الصراعات الداخلية في الدول العربية.. أكثر تكلفةً من الصراعات الخارجية، وأنَّ جوهر الصراعات الداخلية.. يتعلق بقضايا الأقليات، أو ما يمكن وصفه.. بالفشل في إدارة التنوُّع.
في ورقة مهمة للمفكر اللبناني الكبير الدكتور رضوان السيد، بعنوان «التنوُّع والتعايش: خارطة طريق لمستقبل مشترك».. قدَّمها في ندوة عقدتها الهيئة القبطية الإنجيلية في دولة الإمارات، بعنوان «نحو إدارة فاعلة للتنوُّع والتعدُّدية في المجتمعات العربية»، في فبراير 2025، ذهب «السيد» إلى الحديث عن القلق الذي ينتاب معظم الفئات في مجتمعاتنا العربية؛ فهناك قلق الأقليات.. بسبب ضيق الأكثريات بالتنوُّع الديني والثقافي. وهناك – في المقابل – قلق الأكثريات.. من تهديد الهوية الواحدة، التي يجب أن تكون ثابتة لا تتبدَّل ولا تتغيَّر.
أما وأنّ الحال على هذا النحو، فإنَّ السؤال الذي يهتم به هذا المقال.. هو: ما هو دور التعليم في تبديد هذا القلق؟ وكيف يمكن أن يؤدِّي التعليم.. إلى الانتقال من التنوُّع إلى التعددية؟
جدير بالذكر، أنَّ الكتابات المعنية بهذا الصنف من القضايا – ومنها دراسة رضوان السيد المُشار إليها – تميز بين التنوُّع.. الذي هو معطى، وسنَّة من سُنَنِ الله في خلقه، وبين التعدُّدية.. التي هي إدارة هذا التنوُّع بشكل إيجابي، يضمن عدم تهميش أي عنصر من عناصر السكان، وألا يُترك أحد في الخلف.. كما يقولون «don’t leave anyone behind».
في تقديري، أنَّ المفتاح للتعليم، الذي ينشِّئ الفرد من الصِّغَر.. على الاحتفاء بالتنوُّع، وليس فقط على الاعتراف به. هو تلك العبارة الشهيرة للقِس ديزموند توتو – كبير أساقفة جنوب أفريقيا الراحل، والحائز على جائزة نوبل للسلام – وهذه العبارة تقول: «إنسانيتي وثيقة الصلة بإنسانيِّتك؛ إذ لا نستطيع أن نكون بشراً إلا معاً». وأهمية غرس وتأكيد هذه العبارة في النفس البشرية.. منذ سنوات الدراسة الأولى، هي أنها تجعل العلاقة بين الأنا والآخر.. علاقة تواقُف؛ أي أنَّ وجود كلٍ منهما يتوقَّف على وجود الآخر.. تماماً كما هي العلاقة بين المفتاح والقفل، حيث لا معنى لأيٍّ منهما.. من دون الثاني.
ويترتَّب على ذلك، تبديد مشاعر الاستعلاء والفوقية.. عند المنتمين لجماعة معينة؛ على اعتبار أنها الأكثر عدداً، أو الأقوى نفوذاً، أو الأقدم صلةً بالأرض. وإزالة مشاعر الدونية.. لدى المنتمين لجماعات أخرى، تحت انطباع أنَّ تلك الجماعات.. لا تتوفر لها المزايا نفسها.
تحقيق هذه النتيجة.. لا يتطلب إعادة اختراع العجَلة؛ فهناك تجارب تعليمية ناجحة.. من دول مرَّت بحروب أهلية طاحنة، مثل رواندا. أو دول تتنامى فيها النزعات اليمينية المتطرِّفة، مثل السويد.. يمكن الاسترشاد بالمبادئ العامة التي سارت عليها، دون الدخول في التفاصيل.
من أهم تلك المبادئ:
– التأكيد على أنَّ هوية الفرد.. هي ضفيرة من هويات ثقافية متعدِّدة، قابلة للتعايش معاً، ولا يلغي أحدها الآخر. وهذا – بالضبط – هو ما عبَّرت عنه منظمة الـ«يونسكو».. بإعلاء شأن التنوُّع الثقافي في عملية التربية والتعليم، وذلك في وثيقتها الصادرة عام 2015، التي تحمل عنوان «إعادة التفكير في التربية والتعليم: نحو صالح مشترك عالمي؟».
– الحذر من التحيُّز الظاهر والمبطَّن.. عند وضع المقرَّرات الدراسية – خاصة ما يتعلق منها بالتاريخ – وذلك عبر جَعْل عملية التأليف والمراجعة، تتميَّز بأكبر قدر ممكن من التشاركية، والتشاور بين مختلف مكوِّنات المجتمع.. لضمان تكامل أبعاد الصورة.
– تشجيع الروح النقدية للأفكار الشائعة، والتأسيس لمنطق أنَّ أحداً لا يمتلك الحقيقة المطلقة.
– حفز التفاعل الإيجابي بين الطلاب، وتصميم أنشطة يتبادلون فيها الأدوار (لكسْر مفهوم الأكثرية والأقلية).
وغني عن القول، إنَّ المعلم يلعب دوراً أساسياً في هذا الخصوص؛ فليس كل شخص يصلح لمهنة التعليم، ولا يكفي التأطير الجامعي وحده.. للتأكد من توفر تلك الصلاحية بشكل تلقائي؛ بل إنه لا بد من الاشتغال كثيراً.. على تدريب المعلِّمين، قبل تسليمهم مسؤولية تنشئة أبنائنا.
لكن التعليم – سواء المدرسي أو الجامعي – لا يعمل في فراغٍ؛ فله سياقه المجتمعي المحيط به، وما لم يكن هذا السياق مواتياً ومشجعاً.. فإنَّ هذا لا يضمن له الاستدامة.
هنا تبرز أهمية الإرادة السياسية للدولة.. في وضع استراتيجية معزِّزة للتنوُّع، تلتزم بها مؤسسات التنشئة كافَّة؛ بدءاً بالمؤسسات الإعلامية والثقافية، مروراً بالمؤسسات الحزبية، ومؤسسات المجتمع المدني، وانتهاءً بالمؤسسات الدينية.
وهذه الأخيرة، تُعد بالغة التأثير في مجتمعاتنا العربية.
ويمكن القول إنَّ وضوح الرؤية السياسية والتكامل المؤسَّسي، هما العاملان الكفيلان بتحويل التعلُّم المنفتح على التنوُّع.. من مجرَّد مرحلة دراسية منتهية، إلى عملية متواصلة.. ومستمرَّة مدى الحياة.
وبطبيعة الحال، فإنَّ المسألة ليست سهلة، وهناك تحديات كثيرة.. تواجهها من الداخل والخارج.
لكن في الوقت نفسِه، فإنَّ إنقاذ المنطقة من الحروب المذهبية والدينية والعرقية المدمرة.. هو هدف جدير بالعمل من أجله بإخلاص.
نقلاً عن «عروبة 22»