نيفين مسعد
قبل واحد وثلاثين عاماً – وبالتحديد في عام 1994 – رصد العالِم المصري الكبير الدكتور سعد الدين إبراهيم.. أنَّ تكلفة الصراعات الداخلية في منطقتنا العربية – في الفترة من عام 1948 وحتى عام 1991 – على المستويَين البشري والمادي، تفوق تكلفة الصراعات الخارجية؛ سواء مع إسرائيل أو إيران، أو بين الدول العربية وبعضها البعض.
يكفي أن نتوقَّف أمام رقمين اثنين، يتعلقان بالضحايا والنازحين – الذين أسماهم ابراهيم المشرَّدين – لنعرف ماذا يقصد بالضبط، فإذ بلغ إجمالي ضحايا الصراعات الداخلية مليونيْن ومائتين وثلاثين فرداً.. في الفترة موضع الدراسة، فإنّه بلغ في حالة الصراعات الخارجية تسعمائة وأربعين ألفاً. وبينما بلغ عدد المشرّدين.. جرّاء النزاعات الداخلية – في الفترة نفسها – ثلاثة عشر مليوناً وثلاثمائة ألف فرد، فإنّ هذا العدد كان يدور حول ستة ملايين فرد.. بسبب الصراعات الخارجية. وأضاف الكاتب أنَّ قضايا الأقليات.. كانت – في معظم الأحيان – هي المصدر الأساسي للصراعات الداخلية. وهذه النتائج التي توصّل إليها سعد الدين ابراهيم.. مدوّنة في كتابه «الملل والنِحل والأعراق: هموم الأقليات في الوطن العربي» الصادر عن مركز «ابن خلدون».
اختلف الوطن العربي كثيراً.. عمّا كان عليه الوضع وقت صدور ذلك الكتاب، لكنَّ هذا الاختلاف لم يؤدِّ إلى تغيير النتائج والخلاصات.. التي توصَّل إليها، بل إنّه على العكس من ذلك، أدّى إلى تعميقها. إذْ تكفّل الاحتلال الأمريكي للعراق في عام 2003، بإطلاق موجة من الصراع الطائفي السنّي-الشيعي، ثم كان سقوط مدينة الموصل بيد تنظيم «داعش».. سبباً في استهداف الإيزيديين والمسيحيين – على وجه الخصوص – بأبشع الممارسات المنافية لكل حقوق الإنسان. وعندما بدأ ما يُسمّى بالربيع العربي.. انطلاقاً من تونس في نهاية 2010، وتردّدت أصداؤه في عدّة بلدان عربية.. في عدّة موجات متلاحقة، ارتفعَت وتيرة العنف الداخلي بشكلٍ غير مسبوق، ألقى بظلاله على كافّة مؤشّرات احتساب التكلفة. ومن ذلك مثلاً، أنّ بلداً واحداً صغيراً جداً مثل لبنان، استقبل عدداً من النازحين السوريين يتراوح ما بين مليون ونصف المليون ومليونيْن وثمانمائة ألفاً؛ ما يعطينا فكرة عن مدى تفاقم قضية النازحين.. جرّاء الاحتراب الداخلي.
خطر داهم يهدّد بلداننا العربية.. بدوّامات من الصراعات والحروب، قد تفضي إلى تفكيكها على أُسُس دينية ومذهبية وعرقية
ومع أنّ الاحتجاجات الشعبية – سواء في دولة مثل سوريا أو اليمن – لم تكن لأسباب طائفية، بل لأسباب سياسية في المقام الأول، إلَّا أنَّ هناك العديد من العوامل.. التي أدّت بمرور الوقت إلى بروز الجانب الطائفي؛ إلى حد وصل لعملية تغيير ديموغرافي للمناطق الجغرافية؛ بما يجعلها تقتصر على مكوّن سكاني.. من لون واحد. وجرى تسييس التعليم؛ من أجل التعبير عن طبيعة توازنات القوة على الأرض، وبما يخدم أيديولوجية الجماعة المسيطرة.
وبينما كان هذا يجري في وطننا العربي، فإنّ حركات اليمين المتطرّف كانت آخذة في الصعود والتمدّد السياسي حول العالم، وساهمَت تدفّقات اللاجئين من منطقتنا العربية، في إنعاش المشاعر القومية، وإذكاء ظاهرة الإسلاموفوبيا؛ الأمر الذي أدّى بدوره إلى تعقيد ظاهرة الصراعات الداخلية العربية؛ فعندما نتأمّل الأعداد الضخمة من الأجانب المسلمين، المنخرطين في تلك الصّراعات – وفي الصراع السوري بالذات – ندرك جانباً من جوانب هذا التعقيد.
نحن إذن إزاء خطرٍ داهمٍ، يهدّد بلداننا العربية بدوّامات من الصراعات والحروب الأهلية، التي قد تفضي إلى تفكيكها على أُسُس دينية ومذهبية وعرقية. وهذا يستدعي ضرورة إعادة النظر في تعاملنا مع التنوّع الشديد.. الذي يميّز نسيجنا الاجتماعي. بطبيعة الحال، هناك حلول سياسية وقانونية لهذا التنوّع؛ من قبيل الأخذ بالديموقراطية التوافقية على النمط السويسري، التي تسمح بتمثيل كافّة المكونّات الاجتماعية، وعدم تهميش أي مكوّن، أو تطبيق النظام الفيدرالي على النمط الأميركي.. بما يعطي حرية واسعة للولايات في إدارة شؤونها، والنصّ في الدستور على المساواة بين كافة المواطنين في الحقوق والواجبات، وتشديد العقوبات على خطابات الكراهية والتحريض الطائفي. ومن هذه الحلول ما هو مطبّق بالفعل في وطننا العربي، وذلك مع أخذ لبنان بالمحاصَصَة الطائفية منذ عام 1943، والعراق بالمحاصَصَة الطائفية والفيدرالية منذ 2003، وكافّة الدول العربية بالنصوص المقرَّة بالمساواة وعدم التمييز.. في دساتيرها المختلفة، وتطويرها منظوماتها القانونية.. لمنع الجرائم المدفوعة بدوافع عنصرية.
لكن هذه الحلول جميعها لم تؤدّ إلى علو الانتماء الوطني.. على الانتماءات دون الوطنية أو دون القُطرية، ولا حالت دون الاحتكاكات الطائفية والإشكالات المذهبية وعدم الاستقرار السياسي، ولا منعَت الممارسات التمييزية ضد الأقليات.. سواء على المستوى الرسمي أو على المستوى الشعبي. وعندما نتأمّل حالة مثل حالة السودان – على سبيل المثال – نجد أنّ انفصال الجنوب نقل الصراع من كونه بين الشمال والجنوب.. إلى كونه داخل الجنوب نفسه، كما رسمَت الانتماءات القبلية والمناطقية والعرقية خطوطاً صراعية.. بين الشمال والشرق وبين الشمال والغرب.
العنف المادي ننيجة عنف فكري
يمكن القول إنَّ أحد أهم الأسباب.. التي أدَّت إلى فشل الحلول السابقة، وعدم إنتاج النتائج نفسها.. التي أنتجتها في بلدان أخرى، هو أن البيئة الفكرية المناسبة – التي تسمح بتفعيلها – لم تتهيّأ. وهنا تبدو دلالة هذه الجملة العبقرية.. التي وردَت في الميثاق التأسيسي لمنظمة اليونسكو؛ وهي الجملة التي تقول: «لمّا كانت الحروب تولد في عقول البشر، ففي عقولهم يجب أن تُبنى حصون السلام». معنى ذلك أنّ العنف المادي.. هو – في الأصل والأساس – عنف فكري، ينتظر الظروف المناسبة لتتحوّل المعتقدات إلى سلاح فتّاك.. ضد الآخر المختلِف.
ومن هنا تأتي أهمية تعلّم قبول التنوّع في الصغر أوّلاً، ثم ثانياً.. تحويل هذا التعلّم إلى عملية مستمرَّة.. تدوم مدى الحياة (life Long learning)، وذلك لأنّ الدساتير والقوانين والنُظم يطبّقها بشر، وما لم يقتنع هؤلاء البشر بجدواها، فسيجدون دائماً.. السبُل للالتفاف عليها، وتفريغها من مضمونها، وهذا هو موضوع الجزء الثاني من هذا المقال.
نقلاً عن «عروبة 22»
التعليم في خدمة التنوُّع (1/2)

شارك هذه المقالة