Times of Egypt

التعددية القطبية بين العالمية والإقليمية «1ـ 2»

M.Adam
د. أحمد يوسف أحمد  

د. أحمد يوسف أحمد

نبتت فكرة هذا المقال، من جدل واسع دار – ويدور – في الأوساط الأكاديمية والدبلوماسية.. حول طبيعة النموذج القيادي الراهن في النظام العالمي، وهل ما زال يحتفظ بسمته الأحادية الأمريكية؟ أم أن تطورات العقود الأولى من هذا القرن.. أحدثت من التحولات، ما جعل ذلك النموذج يستعيد طابعه التعددي؟ 

وتتمثل أهمية هذا الموضوع بالنسبة لنا.. كقوى متوسطة في النظام العالمي، لا شك أن حركتها تتأثر – بدرجة ملموسة – بطبيعة الإطار العالمي الذي تتحرك خلاله، وصحيح أنه في مواجهة التحديات الخارجية.. ما حكَّ جلدك مثل ظفرك، لكن الإطار الخارجي المواتي لحركة أي دولة، يساعدها على تحقيق أهدافها، كما تُظْهِر التجربة المصرية في خمسينيات القرن الماضي وستينياته. ولا شك أننا نواجه الآن موقفاً عصيباً.. نجم عن العدوانية الإسرائيلية المفرطة، التي لا تنال من فلسطين ولبنان وسوريا فحسب، وإنما تمثل خطراً جسيماً على الأمن القومي العربي برمته. ومن هنا، حاجتنا الملحة لفهم الإطار الدولي المحيط بنا، كي نضمن توفير أفضل الظروف الخارجية لتحركنا.

والفكرة التي أود طرحها – في الجدل الدائر حول طبيعة النموذج القيادي الحالي.. في النظام العالمي – مفادها أن ثمة تعددية قطبية قد تبلورت بالفعل، بديلاً عن الأحادية.. التي سادت منذ تفكك الاتحاد السوفيتي في مطلع تسعينيات القرن الماضي، غير أن هذه التعددية حاضرة على مستوى القمة، بينما تغيب على مستوى الأقاليم.

وقد طرحت هذه الفكرة في فعاليتين فكريتين – شاركت فيهما مؤخراً – عُقدت أولاهما يوم 26 نوفمبر الماضي.. بالتعاون بين مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، واللجنة المصرية للتضامن مع الشعوب الأفروآسيوية، وعدد من مراكز البحوث في فنزويلا، برعاية السفارة المصرية في كاركاس. بينما تمت الثانية.. في إطار أنشطة الصالون الثقافي للمنتدى الثقافي المصري، يوم 30 من الشهر نفسه. وفي الحالتين، ذَكَّرت بالظروف المعروفة – التي تحوَّل فيها نموذج القيادة في النظام العالمي.. من النمط التعددي حتى الحرب العالمية الثانية، إلى نمط القطبية الثنائية – التي انحصرت فيها الوظيفة القيادية في النظام بيد الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي – ثم الظروف التي تفكك الاتحاد السوفيتي بعدها، فآلت القيادة إلى الولايات المتحدة منفردة.

وبينت كيف كان نموذج القطبية الثنائية.. مواتياً للقوى التي اختارت التمسك باستقلالها، ورفض الهيمنة الخارجية؛ كما تشهد بذلك التجربة المصرية في خمسينيات القرن الماضي وستينياته، التي كسرت فيها احتكار الغرب لتوريد السلاح، واتبعت نهجاً مستقلاً في التنمية، وقادت حركات التحرر في الوطن العربي وأفريقيا، بينما كان نموذج الأحادية القطبية كارثياً بالنسبة لنا، كما ظهر في الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، وتداعياته.

وبوصول بوتين إلى سدة الرئاسة الروسية في مطلع القرن، بدأ عملية جادة ودؤوبة لإعادة بناء القوة الروسية الشاملة، وحقق نجاحاً لافتاً، بحيث عادت روسيا للظهور مجدداً.. كقوة مؤثرة على محيطها الإقليمي أولاً، ثم على الساحة الدولية ثانياً؛ كما ظهر من أحداث جورجيا عام 2008، ثم أوكرانيا باستعادة شبه جزيرة القرم عام 2014، والتدخل العسكري المباشر.. لدعم النظام السوري عام 2015. 

ومع استمرار المخطط الأمريكي لتطويق روسيا، ووصوله لأوكرانيا.. ذات الرمزية الجغرافية والتاريخية لروسيا، لم يتردد بوتين في اللجوء للعمل العسكري.. لإجهاض ذلك المخطط، خاصة وقد حاول جاداً التوصل لحلول دبلوماسية، ثبت لاحقاً – بشهادات قيادات غربية وازنة – أن الغرب كان يراوغ.. عامداً لإفسادها.

ورغم مواجهته للعملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، بما جعلها أشبه بحرب عالمية مصغرة، فإنه (أي الغرب).. لم يتمكن من هزيمتها، بل إن جهود التسوية الراهنة، التي يقودها ترامب.. مؤسسة – إلى حد بعيد – على التسليم بالمطالب الإقليمية لروسيا. وهكذا يمكن القول بأنها قد أكدت موقعها كقوة عالمية على القمة، لم يمكن إجهاض سياستها.. رغم مجافاتها لقواعد القانون الدولي، ناهيك بأنها لم تدع مجالاً لشك.. في أنها ستلجأ للخيار النووي، إذا ما لاحت أي نُذُر لهزيمة تقليدية.

ومن ناحية أخرى، واصل القطار الصيني صعوده نحو القمة اقتصادياً.. بل وعسكرياً، بحيث أصبح للقوة الصينية الشاملة.. مكانها المؤكد على القمة الدولية، بعد أن أصبحت القوة العالمية الثانية اقتصادياً، والثالثة عسكرياً. فضلاً عن المعدل المتسارع لنمو القوة الصينية في كلا البعدين، والعلاقة الوطيدة مع روسيا، التي تجعل البلدين أكثر من ند للولايات المتحدة.. حتى لو واصلت احتفاظها بمكانة القوة الأولى عالمياً. وهكذا أصبح للصين – كروسيا – مكانتها العالمية، التي تمكنها من فرض توجهاتها.. فيما يتعلق بمصالحها الحيوية المباشرة، كما هو الحال في قضيتي تايوان وبحر الصين الجنوبي.

وعليه، يمكن القول بأننا أصبحنا بالفعل أمام قمة دولية تعددية. غير أن إمعان النظر في هذه التعددية الوليدة.. يكشف غياب انعكاساتها على الأقاليم. وأستشهد هنا – تحديداً – بالشرق الأوسط، الذي تنفرد فيه الولايات المتحدة بدور «المايسترو»؛ فقد شهد هذا الإقليم تفاعلات بالغة العنف.. منذ 7 أكتوبر 2023، كانت الولايات المتحدة هي الفاعل العالمي الوحيد المؤثر فيها؛ أولاً بالتأييد المطلق لإسرائيل دبلوماسياً واقتصادياً.. والأهم عسكرياً؛ سواء بإمدادات الأسلحة والذخائر بالغة التطور، التي كانت إسرائيل في أمس الحاجة إليها.. لتزايد خسائرها، خاصة مع طول أمد الحرب. بل لقد شاركت في القتال مباشرة؛ سواء بتموضع بطاريات صواريخ الدفاع الجوي المتقدمة ثاد.. بأطقمها الأمريكية في إسرائيل، أو بضرب الحوثيين، ومفاعل فوردو النووي لإيران. وثانياً باحتكار ملف التسوية في غزة.. بموجب قرار مجلس الأمن 2803، الذي أنشأ «مجلساً للسلام» برئاسة ترامب، بينما لم تتجاوز ردود فعل روسيا والصين المستويات اللفظية. ويُلاحظ أنهما امتنعتا عن التصويت على قرار مجلس الأمن، بما سمح بتفرد الولايات المتحدة بملف التسوية، 

وقد يُقال إن الوضع في غزة.. لا يمثل مصلحة حيوية للدولتين، فماذا عن سلوكهما تجاه إسقاط نظام الأسد في سوريا، والعدوان الإسرائيلي-الأمريكي على إيران.. التي ترتبط بهما باتفاقيات استراتيجية؟.

أحاول الإجابة الأسبوع المقبل بإذن الله

نقلاً عن «الأهرام»

شارك هذه المقالة