مي إسماعيل أحمد حماد
لا يخفى على أحد من المواطنين المصريين، بمختلف مستوياتهم المعيشية وأدوارهم الفاعلة في بنية الاقتصاد الوطني، ما نعيشه يوميًا من ارتفاع مستمر في أسعار السلع والخدمات وكل شيء، بالتوازي مع تباطؤ النمو الاقتصادي بشكل عام في كافة القطاعات. ومن هنا يبرز التساؤل الجوهري الذي تسعى هذه الورقة للإجابة عنه: هل يجب أن تتركز الأولوية على كبح جماح الأسعار؟ أم على إعادة بناء هيكل الاقتصاد الوطني.. بما يضمن استدامة النمو والاستقرار والمرونة؟
التضخم: من ظاهرة عابرة إلى أزمة هيكلية
يُعد التضخم واحدًا من أبرز وأعمق المشكلات الاقتصادية.. التي تؤثر – بشكل مباشر – في مستويات معيشة الأفراد والأسر، وفي مدى صلابة النظام الاقتصادي وبنيته الإنتاجية، فضلًا عن انعكاساته على سياسات الاستثمار والنمو، والتنمية، والاستقرار السياسي. وخلال السنوات الأخيرة، لم تعد مصر تواجه التضخم.. باعتباره مجرد نتيجة اختلال بين جانب العرض والطلب، بل برزت بوضوح ظاهرتان أكثر تعقيدًا وخطورة: التضخم المستورد، والركود التضخمي.
ويرتبط التضخم المستورد باعتماد الاقتصادات النامية على الخارج.. في تلبية احتياجاتها الأساسية؛ حيث تؤدي الارتفاعات العالمية في أسعار الطاقة، وتكاليف النقل، والواردات (الغذائية والدوائية).. إلى انتقال موجات التضخم من الأسواق الدولية إلى الداخل. وقد تجلّت هذه الظاهرة بوضوح في عام 2016، مع انطلاق برنامج الإصلاح الاقتصادي المصري، إذ ارتفع سعر صرف الجنيه من 8.8 جنيهات للدولار في أكتوبر 2016 إلى 17.9 جنيهًا في نوفمبر من العام ذاته، بما عكس انتقال صدمة التضخم العالمي إلى الاقتصاد المحلي. ويزداد أثر هذه الظاهرة.. في الدول التي تقوم بنيتها الاقتصادية على أساس إحلال الواردات محل الصادرات، مما يضعها في دائرة تبعية دائمة للاقتصاد العالمي وتقلباته.
أما الركود التضخمي، فهو ظاهرة مركبة تنشأ داخليًا، تتمثل في استمرار ارتفاع الأسعار والخدمات (جانب العرض) رغم تباطؤ النمو، وتراجع معدلات الدخول الحقيقية للأفراد، نتيجة تدهور قيمة العملة المحلية (جانب الطلب). وقد بلغت هذه الظاهرة ذروتها خلال الفترة 2022–2024، إذ قفز معدل التضخم السنوي إلى 40.3% في سبتمبر 2023، وهو أعلى مستوى منذ عقود، بالتوازي مع تراجع غير مسبوق في قيمة العملة التي سجّلت سعرًا موازيًا تجاوز 59.9 جنيهًا للدولار في فبراير 2024.
ويعكس تزامن الظاهرتين }التضخم المستورد، والركود التضخمي{.. عمق الأزمة الهيكلية التي يواجهها الاقتصاد المصري، وصعوبة التعامل معها بالاعتماد على الأدوات التقليدية للسياسة النقدية فقط، وعلى رأسها رفع أسعار الفائدة.
محدودية السياسات النقدية
تنطلق هذه المقالة من فرضية أساسية: على الرغم من أن السياسات النقدية، رغم فعاليتها المؤقتة في الحد من التضخم، لا تستطيع معالجة جذوره الهيكلية. فكلما تم تشديد السياسة النقدية عبر رفع أسعار الفائدة، يتحقق انكماش مؤقت في الطلب، لكنه لا يلبث أن يتلاشى بمجرد تخفيف القيود، لتعود الأزمة من جديد في دورة متكررة من الارتفاعات السعرية. وتؤكد المؤشرات هذا، فبعد بلوغ معدل التضخم ذروته عند 34.2% في يوليو 2017، شهدت الأسعار تراجعًا نسبيًا، لكنها ما لبثت أن عادت للارتفاع في السنوات اللاحقة، مما يعكس أن الأسباب الجذرية للتضخم لم تُعالج بعد.
ويوضح الشكل التالي أن تدهور سعر الصرف.. ارتبط مباشرة بارتفاع معدلات التضخم خلال الفترة (2016–2024)؛ إذ أدّى تحرير سعر الصرف (اتباع سياسية سعر صرف مرن) في نهاية 2016 إلى قفزة حادة في الأسعار، تبعها انخفاض تدريجي.. مع استقرار نسبي للجنيه حتى عام 2021، ثم عاود التضخم الارتفاع.. مع موجات انخفاض العملة، وتفاقم ظاهرة السوق الموازي خلال 2022–2024، في دلالة واضحة على أثر تراجع قيمة الجنيه مقابل الدولار.. على المستوى العام للأسعار.

المصدر: بيانات البنك المركزي المصري- وزارة التخطيط والتنمية الاقتصادية- الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء
ومن هنا، أصبحت هناك ضرورة مُلحة.. لتبني مقاربة أكثر شمولًا، تستند إلى أدوات تحليل السياسات العامة، وفي مقدمتها تحليل التكلفة والعائد، لتقييم البدائل المتاحة أمام صانع القرار، والمفاضلة بين الحلول قصيرة المدى.. الهادفة إلى تهدئة الأسواق، والإصلاحات الهيكلية طويلة المدى.. التي تعيد بناء الاقتصاد على أسس أكثر صلابة ومرونة واستدامة.
وعلى الرغم من اتباع منهجية «سياسة تثبيت سعر الصرف»، لجذب الاستثمارات قصيرة الأجل والأموال الساخنة money hot، بجانب العمل على رفع أسعار الفائدة.. لكبح الطلب والحد من السيولة، فإن أثر هذه الإجراءات في الاقتصاديات النامية – مثل مصر – يظل محدودًا؛ فضعف جانب العرض وتراجع الإنتاجية والتشغيل، إلى جانب انخفاض مساهمة الصادرات في الناتج المحلي الإجمالي، وأزمة نقص احتياطات النقد الأجنبي.. كلها عوامل تؤدي إلى تباطؤ النشاط الاقتصادي وارتفاع البطالة وزيادة معدلات الفقر والجريمة، مما يفاقم الركود بدلًا من احتواء التضخم.
الحاجة إلى إصلاحات هيكلية
بدأت مصر – منذ عام 2016 – تنفيذ برنامج للإصلاحات الهيكلية في بنية الاقتصاد الوطني، بهدف معالجة المعضلات المتراكمة.. على مدى عقود، وإعادة بناء الاقتصاد على أسس أكثر إنتاجية وتشغيلية، بما يعزز صلابته في مواجهة الأزمات السياسية والاقتصادية، ويدعم مرونته أمام الصدمات الداخلية والخارجية. وقد ركز البرنامج على عدة مستويات للإصلاح كما يلي:
في الأجل القصير: اتباع سياسة سعر صرف مُدار.. تقوم على تثبيت السعر في فترات الاستقرار، والتحول إلى سعر صرف مرن في أوقات الأزمات – مثل أزمة «السوق السوداء» للعملة – مع تبنّي سياسات واضحة لضبط الأسواق والحد من المضاربات والاحتكار. فضلًا عن توجيه الدعم بشكل أكثر كفاءة.. نحو الأسر الأكثر فقرًا، عبر التحويلات النقدية المباشرة، وأبرزها برنامج }تكافل وكرامة.{
في الأجل المتوسط: التركيز على سياسات تشجع الاستثمار المحلي في القطاعات الإنتاجية، خاصة الصناعية والزراعية وقطاع الخدمات، إلى جانب دعم مبادرات التحول الرقمي، مثل مبادرات دعم الصناعة. كما شجع البرنامج على تعزيز الشراكة مع القطاع الخاص.. لتخفيف العبء عن الموازنة العامة، والمضي قدمًا في برنامج تخارج الدولة من بعض الأنشطة الاقتصادية، وفقًا لوثيقة سياسة ملكية الدولة، وبرنامج الطروحات الحكومية. علاوة على استهداف إصلاح وتطوير المنظومة الضريبية لتحقيق العدالة، وتحفيز الاستثمار طويل الأجل.
في الأجل الطويل: العمل على تنويع هيكل الاقتصاد الوطني، وتقليل الاعتماد على الواردات الاستراتيجية – من خلال المضي قدمًا في تبنى نهج إحلال الصادرات محل الواردات – لزيادة موارد احتياطات النقد الأجنبي وتقليص الضغط على ميزان المدفوعات. كما ركز البرنامج على الاستثمار في التعليم الفني والتكنولوجي.. لرفع كفاءة سوق العمل وخفض معدلات البطالة، مع تعزيز استقلالية المؤسسات الاقتصادية، وصولًا إلى تقليل الاعتماد على برامج صندوق النقد الدولي.
الاقتصاد السياسي للتضخم
لا يمكن تناول معضلة التضخم، وما تبعها من أزمتي «التضخم المستورد» و«الركود التضخمي»، بمعزل عن سياسات الإصلاح الهيكلي الشاملة. إذ فرض الواقع ضرورة تبنّي هذا البرنامج لتجاوز الحلول التقليدية التي تعتمد على السياسة النقدية وحدها. فالإصلاح الهيكلي ليس مجرد إجراءات فنية، بل هو قرار سياسي يرتبط بتوازنات القوى، ومصالح الفئات الاجتماعية المختلفة.
فعلى سبيل المثال، فإن تقليص الدعم العيني يحمل كُلفة سياسية واجتماعية.. ما لم يصاحبه نظام حماية اجتماعية فعّال وعادل. وبالمثل، فإن جذب الاستثمارات الأجنبية يتطلب بيئة سياسية واقتصادية مستقرة، وإطارًا تشريعيًا واضحًا.. يعزز ثقة المستثمرين في الاقتصاد المصري.
نحو رؤية متكاملة
في سياق الإجابة على تساؤلنا الجوهري: هل نكبح الأسعار أم نعيد بناء هيكل الاقتصاد؟ فإن المسارين ليسا متناقضين، بل متكاملين ضمن رؤية شمولية لإدارة الأزمة. ففي الأجل القصير، هناك ضرورة مُلحة إلى أدوات فعّالة.. لاحتواء ارتفاع الأسعار، وحماية الفئات الأكثر فقرًا، بينما يتطلب الأجل الطويل تنفيذ إصلاحات هيكلية لبناء اقتصاد وطني.. قائم على الإنتاجية والتصنيع والتصدير.
وتظل أدوات السياسة النقدية – وعلى رأسها رفع أسعار الفائدة – تظل حلولًا مؤقتة، في حين أن الإصلاح الهيكلي يمثل المعالجة الجذرية. لكن نجاح هذا الإصلاح يتوقف على تكامله مع السياسات النقدية والمالية قصيرة الأجل، وإلا سيظل التضخم يعاود الظهور بشكل دوري.. كما حدث منذ عام 2016 حتى اليوم، مما يهدد أي استقرار اقتصادي أو اجتماعي مستدام.
الخاتمة والتوصيات
لم يعد التضخم في مصر ظاهرة نقدية مؤقتة، بل أصبح معضلة هيكلية ذات أبعاد اقتصادية واجتماعية وربما سياسية. ولمواجهته، يتطلب الأمر ما يلي:
في الأجل القصير: ضبط السياسات النقدية والمالية.. لكبح الأسعار وتعزيز الرقابة على الأسواق.
في الأجل المتوسط: تفعيل حوافز جاذبة للاستثمار، وإصلاح القطاعات الإنتاجية.. لزيادة معدلات التشغيل.
في الأجل الطويل: إعادة هيكلة الاقتصاد ككل.. على أسس الإنتاجية والاستدامة، بما يعزز مرونته تجاه الصدمات.
حيث يعد النجاح في مواجهة التضخم وتبعاته من الظواهر التي لن تتحقق بالسياسة النقدية وحدها – المتمثلة في رفع أسعار الفائدة فقط – ولا عبر إجراءات مؤقتة لكبح الطلب، والحد من السيولة، بل يتحقق عبر تبني رؤية شاملة ومتكاملة؛ تجمع بين الاستقرار السعري، والتنمية الهيكلية بمعناها العميق.. في مفاصل الإنتاج المختلفة. فالتحدي الحقيقي يكمن في الموازنة بين الحاجة المُلحة لتهدئة الأسعار، وبين بناء اقتصاد منتج ومستدام، وهذا يتطلب إرادة سياسية لا تتزعزع وقرارات اقتصادية رشيدة في إطار زمني واضح ومحدد.
* باحثة حاصلة على ماجستير الاقتصاد – تخصص «قضايا التخطيط والتنمية».
** قدمت هذه الورقة البحثية.. مشروع تخرج في دورة «برنامج أجندة سياسات مصر – المرحلة الأولى» في «معهد سياسات» (أبريل – سبتمبر 2025).