Times of Egypt

التسامح والاضطهاد والهوس

M.Adam
وجيه وهبة 

وجيه وهبة

شهد عقد العشرينيات من القرن الماضي.. أحداثاً جساماً، مهمة ومحورية في تاريخ النهضة المصرية الحديثة.. المجهضة في كافة جوانبها؛ السياسية، والفكرية، والتعليمية، والثقافية… إلخ. ففيه – على سبيل المثال – حصلت مصر على استقلالها ـ النسبي ـ عقب أحداث «ثورة 1919» وتبعاتها. وفيه كتبت «مصر» دستوراً.. يُعد من أعظم دساتيرها (دستور 1923). وأيضاً تأسيس عدد من الأحزاب. كما شهدت البلاد معركتين – من أهم معارك التنوير وحرية الفكر والتعبير – وذلك عقب صدور كتابين، هما؛ كتاب: «الإسلام وأصول الحكم» للشيخ «علي عبد الرازق» (عام 1925)، وكتاب: «في الشعر الجاهلي» للدكتور «طه حسين» (عام 1926). 

كما ظهر أيضاً في ذلك العقد (في عام 1927) كتابٌ مهمٌ للكاتب التنويري الكبير «سلامة موسى»، بعنوان: «حرية الفكر وأبطالها في التاريخ»، الذي نعرض لفصل جاء فيه، بعنوان: «التسامح في الإسلام».

يبدأ «سلامة موسى» بالإشارة إلى المعركة الفكرية – التي نشبت في بداية القرن (العشرين) – بين «فرح أنطون»، والشيخ «محمد عبده».. عن «التسامح» في «الإسلام» و«النصرانية»، ثم يورد بعضاً مما ذكره الشيخ «محمد عبده».. دفاعاً عن «الإسلام»، مبيناً أن «المسلمين الأولين في زمن الخلفاء كانوا يحترمون العلماء.. دون النظر إلى مللهم ونحلهم، بل ويفوِّضونهم في كثير من الأعمال، ويرقونهم في مناصب الدولة». وروى الشيخ حكايات.. تعبِّر عن مكانة وحظوة هؤلاء العلماء، وذكر نحو خمسين اسماً لهؤلاء، ومنهم أطباء وفلاسفة ومترجمون ومنجمون.

كان «سلامة موسى» يجل ويقدِّر الشيخ «محمد عبده»، وخطابه الديني، وتفسيره العصري للقرآن – مثل قوله بأن «الطير الأبابيل».. ما هي إلا «جراثيم مهلكة» – وقد أشار إلى إعجابه بالشيخ في أكثر من موضع. ولكن ذلك لم يحُل بينه وبين اللجوء لكتب التاريخ، ليضع – في مواجهة رأي «الشيخ» عن التسامح في الإسلام – ما فعله ثلاثة خلفاء هم؛ «عمر بن الخطاب» و«المأمون» و«الحاكم بأمر الله»، هؤلاء الذين «اضطهدوا اليهود والنصارى، وتعلَّلوا بالدين باضطهادهم» – على حد قوله – ثم يقول:

«فقد كان عمر بن الخطاب يقصد إلى رَفْع شأن العرب، وتوثيق عُرى قوميتهم، فطرد اليهود والنصارى من الجزيرة، ثم أمر بعدم بناء كنائس جديدة، أو ترميم ما تَهَدَّمَ، ومنع النصارى من إقامة الصلبان فوق الكنائس، كما منعهم من حمل كُتُبهم المقدسة.. في المواكب أو الأماكن العامة، وأجبرهم على تخفيض صوتهم عند الترتيل في الكنائس.. إذا كانت هذه الكنائس في حي يسكنه المسلمون، ومنعهم من إيقاد الشمع والمشاعل في المشاهد.. وقت تشييع الجنائز، وحرَّم عليهم محاولة تنصير مسلم، أو أن يَحُولوا دون إسلام نصراني، ومنعهم من أن يتخذوا هيئة المسلمين في اللباس، وحظر عليهم التسمي بأسماء عربية، أو حمل السلاح، وكتب إلى عمرو بن العاص – والي مصر – يأمره بأن يختم في رقاب أهل الذمة بالرصاص، وأن تجز نواصيهم، وأن يركبوا عرضاً، وأن يُظهروا زنانيرهم». 

ويستطرد: «أما المأمون فإن شهرته بالعدل.. لا تقل عن شهرة عمر، وقد ذكر الكندي عنه.. قصة جرت بمصر – وقت زيارته لها – تدل على نظره للمخالفين للدين؛ فإنه عندما كاد يبلغ تخوم مصر الشرقية، أنبئ بخروج المسلمين والأقباط في سمنود.. متحدين على الوالي؛ لفرط ما كابدوا من الجور، وما تحمَّلوا من الضرائب الفادحة، فتغاضب المأمون وعنَّف الوالي، وحمَّله هو وجُباتُه اللوم كله، وتوعَّدهم بالعقاب القريب، وتعالم الناس بما فَاهَ به المأمون، وبلغ الثائرين ما قاله، وما توعَّد به الوالي وجباة الضرائب، فاتفقوا مسلمين وأقباطاً على أن يستأمنوا للمأمون، وينزلوا على حكمه، فلما استأمنوا وسلموا سلاحهم.. عفا عن المسلمين، ثم قبض على جميع الأقباط رجالاً ونساءً – وهم يُعدون بالآلاف – فقتل جميع الرجال وباع النساء والصبيان».

 ويواصل: «بقي الحاكم.. الخليفة الفاطمي – الذي قُتل بالقاهرة سنة 1021م – وهو يختلف عن عمر والمأمون؛ من حيث إن التاريخ يصفه بالهوس والسخافة، بمقدار ما يصفهما بالعقل والحكمة. واضطهاده للأقباط في مصر.. أكثرُه هوسٌ؛ فإنه أمرهم بلبس ثياب الغيار، وشد الزنار في أوساطهم، ومنعهم من عمل الشعانين، وقبض على ما في الكنائس وأدخله على الإسلام، وعاملهم بغير ذلك من ضروب التشديد والعنف.. بما لم يُقاسِ النصارى مثله من قبل في مصر».

«فمن هوسه أنه أجبرهم على أن يعلِّقوا الصلبان من أعناقهم، طول الصليب ذراع ووزنه خمسة أرطال، وأجبر اليهود على أن يعلقوا في أعناقهم قرامي الخشب.. بوزن صلبان النصارى، وألا يركبوا شيئاً من المراكب المحلاة، وأن تكون ركبهم من الخشب، وألا يستخدموا أحداً من المسلمين، ولا يركبوا حماراً لمُكارٍ مسلم، ولعل معاملته لهم.. أعظم ما أصابهم من الاضطهاد مدة الحكم الإسلامي».

«على أن معاملته للمسلمين لم تكن عادلة – وإن كانت دون الاضطهاد – فقد منعهم من أكل الملوخية والجرجير، ومنع النساء من التبرُّج، وأمر الخطباء بلعن السلف، ويقال إنه هو نفسه كَفَرَ بالإسلام، وحاول إقامة دينٍ جديد، وهو مؤسِّس دار الحكمة.. التي كانت تنشر الكفر والزندقة. ولَمَّا اشتد اضطهاده للأقباط.. أسلم معظمُهم، فلما رجع عن اضطهاده، أَذِنَ لهم في الارتداد.. فارتدوا». 

ثم يختتم «سلامة»:

«ففي هذه الأمثلة الثلاثة، نرى اضطهاداً صريحاً، ولكن لا يمكننا – مع الإنصاف – أن ننسب هذا الاضطهاد للإسلام، فإن معاملة عمر والمأمون.. للنصارى واليهود، إنما كان تدفعهما إليها المصلحة القومية وسياسة الدولة، أما معاملة الحاكم، فهوس لا غش فيه» ا.هـ.

وللحديث بقية مع الرائد «سلامة موسى»، وكتابه عن الحرية وأبطالها و..«إبطالها».

نقلاً عن «المصري اليوم»

شارك هذه المقالة