أحمد الجمال
تكفلت الأيام.. التي هي الوعاء الزمني للأحداث وللظواهر الإنسانية – وأيضاً الطبيعية – بأن تؤكد صحة ما كان يذهب إليه كثيرون ويعتقدونه – وأنا منهم – حول أن الدولة الصهيونية.. هي رأس الرمح المتقدم للاستعمارين القديم والجديد في المنطقة، وأن لها وظيفة محددة.. كانت من وراء الإصرار على إنشائها وتثبيتها ودعمها، حتى تعملقت ووصلت لأقصى درجات القوة الغاشمة؛ المعتمدة على التمييز العنصري والإبادة الجماعية، والقتل والتدمير لدرجة الإفناء.
وأن تؤكد الأيام أيضاً.. جوهر ما كان يعتقده أولئك الكثيرون؛ حول أن الرأسمالية العالمية – وعلى رأسها إدارة الولايات المتحدة الأمريكية – لا تعرف سوى لغة المصالح والقوة، لدرجة التوحش والبطش، وإنكار دور منظومة المؤسسات الدولية، التي حاولت البشرية أن تؤسسها، لتكفل درجة أو أخرى من الاستقرار الدولي.. على أساس من العدل النسبي، إضافة إلى أن الأيام تكفلت أيضاً بإثبات صحة أطروحات التحرر الوطني، والسعي لطريق ثالث.. أو رابع، وهلم جرا من الأطروحات، التي تصاعدت وتيرتها بعد الحرب العالمية الثانية.. في مساحات هائلة ممتدة في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية.
ومن المفارقات، أن كثيرين من هؤلاء الذين أتحدث عن أن الأيام انحازت لأفكارهم؛ كانوا قد وصلوا لمراحل من الإحباط والشك فيما اعتنقوه، ولطالما حاولوا أن يغيروا المسميات، وأن يعدِّلوا في مناهج التفكير، وأن يتخلوا عن مواقف سياسية وأيديولوجية.. فعلوها من قبل دون خشية أو خجل. ومع ذلك، فإن هذا الذي أكدته الأيام، لا يعني السعي لصدامات غير محسوبة المسارات والعواقب مع ذلك التحالف الصهيوني-الغربي-الأمريكي؛ لأنه فوق عقيدته السياسية والاقتصادية والعسكرية والاستراتيجية، وترجمتها لواقع فعلي حافل بالحروب والعنف، ومصادرة حقوق شعوب بأكملها، فإن له ركائز مرتبطة به داخل مجتمعاتنا، أصبحت مصالحها جزءاً من مصالحه، وأصبح وجودها مكفولاً بحمايته، وأصبح تغلغلها في أكثر من مجال اقتصادي وسياسي وثقافي.. غير منكور. وهي لا تخجل من ذلك، بل تعلنه وتزهو به!
وعلى ذلك كله، فإن العقل الجمعي للمجتمع المصري – وغيره من المجتمعات المضارة من ذلك التحالف – مطالب بأن يجدد دوماً أدواته الفكرية والسياسية والاقتصادية.. على ضوء معطيات كل مرحلة حاضرة ومستقبلية.
لعلي أذكر في ذلك السياق – سياق تجديد الأدوات – أن مصر حاولت في مطلع ستينيات القرن العشرين، أن تسعى لحوار رشيد مع الإدارة الأمريكية، وتم تبادل الرسائل المطولة بين الرئيس جمال عبدالناصر – رئيس مصر في ذلك الوقت – وبين الرئيس جون كيندي.. رئيس الولايات المتحدة الأمريكية آنذاك. ومن يطالع تلك الرسائل، سيلتقط – وبوضوح – أن ثمة تطوراً في مفاهيم رأس الإدارة الأمريكية، وتطوراً أيضاً في لغة خطاب ومضامين رؤية الزعيم جمال عبدالناصر، الذي كان أبرز زعماء التحرر الوطني وعدم الانحياز في تلك الفترة.
وهنا يكون السؤال: هل نحن نملك تجديداً لأدواتنا.. بما يتواءم مع رأس الإدارة الأمريكية الحالي دونالد ترامب – ومع فريق عمله – بما يتناسب مع العلاقة الأمريكية-الصهيونية، وأيضاً مع مكونات المجتمع في الدولة الصهيونية؟
والإجابة عندي – حسب معلوماتي المحدودة، ومعرفتي المتواضعة – أننا نملك ذلك، ومن يستقرئ المسارات السياسية والدبلوماسية.. التي مضت فيها الإدارة المصرية تجاه ما يحدث في غزة وفلسطين.. ثم تجاه البحر الأحمر، ثم تجاه ما يحدث في سوريا؛ فإن النتائج المباشرة و«المرحلية».. تشير إلى حنكة سياسية ومهارة دبلوماسية، لم تفقد البوصلة الرئيسية، وهي الحفاظ على الأمن القومي المصري، وعلى التراب الوطني، والحيلولة دون الانزلاق لصدامات تتحول إلى مواجهات عسكرية، تحمل في طياتها احتمالات تهديد المشروع الوطني النهضوي المصري، والعصف بما تم إنجازه من بنية تحتية في المجالات كافة، وبما يتم التجهيز لإنجازه في تلك المجالات؛ وعلى رأسها جني المواطن المصري ثمار ما أنجز، وثمار صبره وتحمله.
إن المرء لا يُخفي أنه «يضع يده على قلبه» صباح مساء، خشية أن يتصاعد جور وتعسف التحالف «الصهيو-أمريكي»، بما لا يدع فرصة لأي تعامل سوى بالقوة، وما يحمله ذلك من مخاطر شديدة، بل إن البديل – هو أيضاً محمل بمخاطر أشد – وهو التسليم بهذا الجور والتعسف؛ بما يعني إهدار الإرادة الوطنية.. وربنا يستر!
نقلاً عن «الأهرام«