Times of Egypt

البيروقراطيات العربية وأزمات الدولة ما بعد الاستقلال

M.Adam
نبيل عبدالفتاح

نبيل عبدالفتاح

تمثل البيروقراطية إحدى السمات الرئيسة للدولة/الأمة.. في التجارب الأوروبية والغربية، فقد ساهمت في رسوخ وتطور الرأسمالية، وعلامة على التحديث، وذاكرة الدولة والنظم السياسية في عديد المجالات. 

أثرت البيروقراطية في النظام الرأسمالي وتطوراته، وتأثرت بها، وبالتحولات في سياقات الثورات الصناعية المختلفة. 

مع الليبرالية الديمقراطية التمثيلية في أوروبا وأمريكا الشمالية، شكَّلت أحد أسس استقرار النظم الديمقراطية التمثيلية من خلال أجهزتها وتقاليدها وإجراءاتها وملفاتها في عديد المجالات، ورفدت سلطات الدولة الثلاث بما تطلبه من مخزون معلوماتها وخبراتها. 

ظل التغير السياسي مستمراً ومتغيراً عبر الآليات الانتخابية، وظلت البيروقراطية راسخةً، وتمتلك بعضاً من القوة والتماسك الداخلي والقدرة على التأثير في مسارات التغير السياسي والاجتماعي. 

مع التحول إلى الرأسمالية-النيوليبرالية، والرقمنة والثورة الصناعية الرابعة، وازدياد قوة الشركات الرأسمالية الرقمية الكونية، ونظائرها في مجالات الإنتاج والخدمات، استطاعت التأثير على الدول، والطبقات السياسية الحاكمة وسياساتها الاقتصادية والاجتماعية، ومن ثم بدا بعض من الوهن.. في قوة أجهزة الدولة الليبرالية التمثيلية البيروقراطية والمؤسسات السياسية، وفي قدراتها على ضبط هذه التدخلات في سياسات الدول والحكومات، وبدا بعضها في حاجة إلى تطوير قدراتها، والتكيف مع الذكاء الاصطناعي وعالم الروبوتات، الذي سيغير من مفهوم ووظائف البيروقراطية.. التي عهدناها تاريخياً في الدول الأكثر تطوراً في الغرب وشمال العالم. 

ستشهد الأجهزة البيروقراطية إزاحة عديد من الأجهزة والإدارات والموظفين العموميين.. مع تمدد عالم الروبوتات، والذكاء الاصطناعي، وتطوراتهم المتلاحقة، وفائقة السرعة.. في المعلومات، والتحليل والسيناريوهات وإبداء الآراء العلمية. 

العالم الذي يتغير – وخاصة في الأجهزة البيروقراطية للدول الأكثر تقدماً – يختلف جذرياً عن حالة الجنوب المتخلف؛ وخاصة في عالمنا العربي، الذي يواجه مشاكل تضخم البيروقراطية، وعسر تكيفها.. مع عديد المتغيرات والتحولات التقنية منذ ما بعد الاستقلال وإلى الآن، ويبدو مستقبلاً. 

إحدى أكبر المشاكل – التي واجهت قادة ما بعد الاستقلال.. في بعض الدول العربية – بناء أجهزتها البيروقراطية الوطنية من حيث تكوينها، ونظم التجنيد للموظفين داخلها، وإعداد كوادرها. بعض الدول العربية التي تشكلت أجهزتها البيروقراطية.. مع بناء الدولة الحديثة، مثل مصر مع محمد علي وإسماعيل باشا، والنظام شبه الليبرالي، والمغرب مع دولة المخزن؛ ومن ثم لم تواجه المشاكل التي واجهتها دول ما بعد الاستقلال العربية، وخاصة في المجتمعات الانقسامية. 

غالب الدول العربية ما بعد الاستعمار.. ورثت الأجهزة الإدارية التي تشكلت أثناء خضوعها للاستعمار الغربي الفرنسي، والإيطالي، والبريطاني. وقام الاستعمار الفرنسي بتطبيق نظام الإدارة المباشرة في الجزائر، وتونس، وسوريا، ولبنان. 

وفي نظام الإدارة غير المباشرة للاستعمار البريطاني – في مصر والعراق والسودان – كان الوضع البيروقراطي المصري.. مختلفاً عن الحالات الأخرى، لأن النظام البيروقراطي تشكل مع محمد علي، وإسماعيل باشا، وحركة البعثات الأجنبية، وتنظيم الأجهزة الإدارية في عديد المجالات، وخاصة مع التعليم المدني، ومن ثم تم تطبيق هذا النظام في يسر، لأن التقاليد البيروقراطية، وكوادر الأجهزة الإدارية استقرت نسبياً قبل الاحتلال. 

كان بعض الإشراف البريطاني المحتل من أعلى.. حاضراً، مع إنشاء بعض الأجهزة الجديدة في الأمن السياسي، وقسم مكافحة المخدرات على سبيل المثال. كان الوضع في العراق أكثر تفككاً.. مع التركيبة العشائرية الدينية والمذهبية لمكونات المجتمع العراقي الانقسامي، وتمت الاستعانة ببعض المتعلمين في بناء الجهاز الإداري، والبيروقراطي.. في إدارة شؤون القبائل والعشائر، والمكونات المختلفة؛ بما فيهم المكون الكردي البارز. أدى تضخم الأجهزة البيروقراطية، ومحمولاتها الدينية والمذهبية والطائفية والعشائرية في المشرق العربي، والتركيبة الطبقية السلطوية المسيطرة – وخاصة في دول نفطية.. كالعراق ما بعد صدام حسين – إلى تمدد أنماط من الفساد الهيكلي والوظيفي، ومن ثم إلى خرق – وتجاوز – قوانين الدولة، وترهل الأجهزة الإدارية وكسلها.. على نحو أثر على تقديم الخدمات العامة إلى المواطنين. 

وأدت الحروب الأهلية في اليمن والسودان وليبيا.. إلى هجرة بعض الموظفين إلى خارج البلاد، ودول الجوار الجغرافي، ومن ثم يتطلب إعادة بناء الجهاز البيروقراطي وترميمه إلى بعض الوقت.. في حال نهاية الحرب الأهلية في هذه الدول، وكذلك الأوضاع في سوريا المنقسمة.. في ظل النظام الانتقالي الحالي واضطراباته. 

بعض أجهزة الدولة البيروقراطية – مع التحديث الرقمي لأجهزتها – تميل إلى التمييز بين الجمهور.. في تقديم الخدمات عبر الرقمنة، أو الخدمات العادية، بين بعض من يستطيعون، وبين المعسرين من المواطنين، وذلك من خلال رفع الرسوم على الخدمات المقدمة رقمياً. كما أدت الثورة الرقمية إلى نمط جديد.. من الرقابة على أداء بعض أجهزة الدولة وموظفيها، من خلال رصد الجمهور سلوك وأداء الموظفين العموميين.. من خلال كاميرات الهواتف المحمولة، وبثها على وسائل التواصل الاجتماعي، وتعبئة بعض الأفراد والجماعات الرقمية ضد هذا السلوك. 

البيروقراطيات العربية، باتت تشكل إحدى مشاكل ضعف وهشاشة الدولة العربية.. ما بعد الاستقلال، وعلامة على عدم تطورها كدول، وأنظمة سياسية سلطوية، وضعف القدرة على تحديثها.. مع تطور الحوكمة الرقمية، والذكاء الاصطناعي التوليدي، وهو ما سيؤدي إلى إعاقة تطور الدولة والمجتمع في هذه الدول، التي لا تزال تواجه عقبات عديدة، تحول دون تطورها ودمقرطتها وتنميتها، وتأسيس المواطنة وحقوقها لشعوبها.

نقلاً عن «الأهرام«

شارك هذه المقالة