Times of Egypt

البلّورة المصرية 

M.Adam
أحمد الجمال

أحمد الجمال 

أخطر ما يترتب على الارتداد بالسبائك الحضارية إلى عناصر تكوينها الأولى؛ هو عدم القدرة على تدارك الآثار المدمرة.. على هذا التفتت والتفكك. 

وكما كتبت من قبل في هذه المساحة، فإنه كما لا يمكن ري العطش بابتلاع ذرات أكسجين وهيدروجين، رغم أن الماء مُكوَّنٌ منهما؛ فإنه لا يمكن استعادة السبيكة أو التكوين الحضاري المركب.. بوضع الجهات والقبائل والعشائر والطوائف.. بجوار بعضها البعض، بل إننا نلاحظ – في أيامنا هذه – أن تفتيت بلد مثل سوريا، والارتداد به إلى الطائفية والقبلية والعشائرية والجهوية.. أدى إلى ما حدث. وعندما زال النظام القديم، وتقدم أحد عناصر التكوين الطائفي لتولي زمام الأمور.. حدث على الفور الاقتتال على أرضية طائفية، وسعت جهات خارجية «إسرائيل» إلى اختراق ما تبقى.. عبر الزعم بحماية طائفة أخرى من الطوائف. 

ثم إن ما يجري في جنوب السودان، يُنذر بخطر آخر.. يضاف إلى الخطر الذي طال انفجاره في الشمال، ولا تخطئ العين المراقبة أن العامل الأساسي في هذه المآسي الدامية، هو الارتداد إلى تلك العناصر الأولية، وتقويض الانتماء الوطني الكلي الجامع الشامل؛ لتصبح الانتماءات الفرعية الدينية والمذهبية والطائفية والجهوية هي الملاذ الذي يلجأ إليه الناس، وهو ملاذ هشٌّ.. يندفع إلى ممارسة نقيضين فى آنٍ واحد. الأول: هو التقوقع على الذات وفق آليات متخلفة. والثاني: هو العدوانية تجاه الانتماءات أو العناصر الأخرى، لتشتعل النار، ويزيدها اشتعالاً الاختراقات الخارجية.. التي تسعى لإضعاف أو تهميش أو استغلال موارد وثروات الطرف الذي يحدث فيه هذا الخطر.  

هنا، ومن أرضية الحرص على الأشقاء في جنوب السودان – الذين تربطنا بهم أواصر الانتماء لأفريقيا، ووشائج الانتماء لوادي النيل، والتاريخ المشترك والمصالح الحيوية المتداخلة – فإنني أضم صوتي لكل الجهود التي تسعى للحيلولة دون أي قلاقل هناك، ودون تأجيج الصراعات القبلية والجهوية، لأن التجربة الحية في أكثر من دولة.. تؤكد أن الضحية ستكون هي الشعب بأكمله، والأجيال كلها، والفئات بغير استثناء، خاصة الشيوخ والكهول والعجائز والأطفال. 

معلوم أن «الضحية».. لا يقتصر معناها على القتلى والمصابين والمشردين والهالكين عطشاً وجوعاً وعرياً، بل إنه يتعدى ذلك إلى أن المراهقين وصغار الشباب يُستغلون – بحكم العمر والحيوية والاندفاع – ليكونوا حملة السلاح وأدوات التدمير. 

لا بد أن يكون في جنوب السودان عقلاء وحكماء، يدركون هذا الذي أتحدث فيه وعنه.. ومن غير المعقول أن يكون الزعيم «جون جارانج».. هو من نادى بسودان حر ديمقراطى موحَّد، ثم يتجه الأمر في وطنه إلى التفتيت القبلي والعشائري والجهوي الميكروسكوبي. 

ثم إن العقل بعد – أو مع – العين المراقبة.. يتجه بالتفكير مباشرة إلى وضع مصر، ودورها تجاه هذه المخاطر، التي تتسع دوائر اشتعالها في محيطها، خاصة أن الحتميات التاريخية والجغرافية – وهما معاً الترجمة الواقعية للأقدار والعناية الإلهية – تقول إن المحروسة هي البلّورة القوية المتماسكة، التي شاءت أقدارها أن تكون وسط محيط سائل، وبغير وجود تلك البلّورة.. يستحيل تجميع ذرات ذلك السائل وتجانسها. 

لم تكن مصادفة جغرافية أو تاريخية، أن يستمر وجود العناصر الأولية من قبائل وعشائر وطوائف ومذاهب.. على امتداد المساحة من العراق إلى سوريا الجغرافية – التي تضم دول سوريا ولبنان والأردن وفلسطين – ثم إلى مشارف شرق مصر، وعندها تختفي – بذوبانها وانصهارها وسبكها.. في كلٍّ وطني مركب صانع للحضارة – لتظهر مرة أخرى على مشارف غرب مصر، وتكون تجلياتها – السلبية قبل الإيجابية – ظاهرة للعيان في ليبيا.. وصولاً إلى الأطلسي! 

بغير أدنى مبالغة.. أو مراهنة، فإن القيادة المصرية تدرك أهمية الحفاظ على البلّورة المصرية.. وعلى دورها، وتترجم ذلك عملياً ليتجلى الإدراك في مسلكيات قيادية مبهرة، على رأسها زيارات الرئيس للكنيسة الأرثوذكسية الوطنية، ومطالبته الدؤوب بتجديد (وتحديث) الخطاب الدعوي الديني، والانغماس في المشاريع الوطنية الكبرى، التي هي – على مر التاريخ – البوتقة التي يزيد تماسك السبيكة الوطنية فيها، لأنه إذا كان الكل الوطني لا تمييز فيه ولا بينه.. عند الدفاع عن الوطن، حيث لا تميز قنابل العدو بين دم مسلم ودم مسيحي، فإن المشروعات الوطنية الكبرى يختلط فيها العرق.. بغير تمييز بين منبعه. 

نقلاً عن «الأهرام« 

شارك هذه المقالة