Times of Egypt

البدراوي باشا عاشور.. حكاية مفيدة من تاريخنا

M.Adam
عمار علي حسن

عمار علي حسن

قبل سنوات، استضافني أحد وجهاء قرية «دارين» – مركز «نبروه» محافظة «الدقهلية» – وبعد تناول الغداء، سألني: هل تريد زيارة قصر «البدراوي عاشور»؟ 

رحبتُ على الفور، وذهبت بصحبته إلى هناك، لألتقي بعض الناس، فيحكون لي غير ما قرأته، عن الطريقة التي امتلك بها الرجل أربعين ألف فدان. 

كنت قد قرأت عن انتفاضة أهل «بهوت» – عام 1951 – ضد أسرة البدراوي عاشور، بعد أن هاجم رجاله بيوت القرية.. لتأخر الفلاحين في توريد القمح إلى مخازن الباشا، وقبضوا على خمسين رجلاً، واحتجزوهم في ملحق بقصره، فردَّ الأهالي بهجوم مضاد على القصر، واحتجزوا السيدة  «نازلي سراج الدين» – زوجة أحد أبناء البدراوي عاشور – فاتصلت بوالدها «فؤاد باشا سراج الدين».. وزير الداخلية آنذاك، فأمر بدفع قوات حاصرت القرية خمسة وأربعين يوماً، ووقعت اشتباكات.. قُتل فيها اثنان من الفلاحين، وعُقدت محاكمة لبعض الأهالي، تأثر بها الشاعر صلاح جاهين، فكتب قصيدة يقول فيها: «ياللي قاعدين ع المصاطب/ تنهجو ساعة المغارب/ كل واحد فيكو حارب/ لجل قوته وقوت عياله/ يوم بحاله/ لما نور الفجر شقشق/ كل باب في الدرب زيَّق/ واتبدرتو في كل مفرق/ تمشوا في وسط الكيمان/ ع الغيطان/ واللي في الشبورة شافكو/ وانتو فايتين لم عرفكوا/ وانتوا أشباح لم سمعكوا/ وانتوا م السقعة بتشكوا/ واللا تبكوا/ طلعت الفاسة ونزلت ألف مرة/ لما تقلت في الإيدين/ والشمس وصلت للعلالي/ وانتهيتوا واترميتوا.. تحت سنطة.. جنب مجرة/ اللي عنده فك صرة فيها لفتة/ وفيها كسرة/ هما دول كانوا غداكو/ في شقاكوا/ يوم بحاله/ وفي صفاري شمس وقفت الفيسان/ والأرض نضفت/ وانتوا أبدانكوا اللي عجفت/ جريتوها ع الخرايب/ والزرايب/ ياللي قاعدين ع البيبان/ كل مفرق من زمان/خشوا ناموا في أمان/ واستعدوا للكفاح/ في الصباح». 

وأعرف رواية أخرى.. تدين «البدراوي»، إذ عرض عليه عبد اللطيف المكباتي – عام 1922 – أن يطلق جائزة باسمه.. قيمتها ألف جنيهاً، تُعطى لكاتب كل سنة، فتواصل البدراوي مع الدكتور محمد حسين هيكل.. ليأخذ رأيه، فقال له: هذا مفيد لك، الجائزة ستجعل اسمك يبقى أكثر من أي ثروة، وهي جزء صغير جداً.. مما أنعم الله عليك به. فابتسم البدراوي ساخراً، وقال له: يبدو أنك مثل المكباتي، تعتقد في هذا الكلام الفارغ. أي خير يفعله المؤلفون والكُتَّاب للمرء حتى يعطيهم ألف جنيهاً كل سنة. 

ثم يعلق هيكل، أن هذا الرد كان متوقعاً.. من رجل طالما رأى أن الفلاحة لن تستفيد من إنشاء مدارس للزراعة. كتب التاريخ عدت «البدراوي» من الإقطاعيين، وأمَّم ضباط يوليو أرضه، بينما الفلاحون حكوا لي.. كيف بدأ مجرد خولي أنفار، عند سيدة صاحبة أملاك. ثم اشترى من عرقه بضعة أفدنة قليلة، راح يضيف إليها من أرض.. كانت مستنقعات مملوءة بالبوص والهيش، حتى اتسعت أملاكه. قالوا لي إنه كان يركب – بنفسه – وأبناؤه.. على عروق خشب تجرها ثيران، لينيخ تحتها البوص، وتهرب الحشرات الضارة. وخلفه أجراء يقطعونها، فتنجلي الأرض، وتنتظر تقليباً وردماً وتسميداً.. حتى تتهيأ للزراعة، وبهذا امتدت أملاكه من قلب الدلتا حتى شاطئ البحر المتوسط. 

يومها، هاتف خفير القصر.. صاحبه، الأستاذ «فؤاد بدراوي».. فوجدته يطلبني، ويقول لي: لو أبلغتني بمجيئك، لجئت لأنتظرك. شكرته في امتنان، ثم وجدته يقول لي: اطلب من الخفير أن يأخذك إلى غرفة العدة والكرباج، التي كان أبي يجلد فيها الفلاحين. تعجبت لطلبه، وظننت أنه ينطق بالحقيقة، لكنه ضحك ساخراً. وقال: ستكتشف أنها أكاذيب أطلقوها علينا، وصدقها الناس. 

وحكى لي الخفير أن «البدراوي».. كان إن دخل إلى غرفة نومه، لا يجرؤ أحد على إيقاظه.. مهما كان. ضحكت وقلت له: هكذا كان يفعل ستالين. لم يسألني عن الاسم الذي نطقت به، إنما راح يقول.. إن واقعة واحدة كُسرت فيها هذه القاعدة، حين رن الهاتف في القصر، وكان الطالب هو رئيس الوزراء وزعيم الأمة «مصطفى باشا النحاس»، وكان يريد «البدراوي» على عجل، فلم يجد ابنه – الذي رد على المكالمة – من سبيل سوى إيقاظ الرجل، الذي نهض غاضباً، وقبل أن يوبخ ابنه، وجده يقول له: النحاس باشا يريدك في أمر مهم. نهض إلى الهاتف، فجاء صوت النحاس قائلاً: سيقف عند قريتك قطار البضائع، فاملأه بالقمح، كمساعدة إلى أهل ليبيا.. الذين يعانون من مجاعة، وقد خاطبني الملك السنوسي طالباً إغاثة. 

على الفور طلب «البدراوي» من ابنه جمع الفلاحين، وفُتحت الصوامع، وامتلأ القطار عن آخره، ثم مضى إلى حيث أراد رئيس وزراء مصر.

واقعة مشابهة شهدتها، حين اصطحبني الكيميائي «محمد سالم» – عام 1992 – وكنا نسكن سوياً في شقة بحي «عين شمس» في «القاهرة».. إلى مصنع ياسين للزجاج، وسمعت من قدامى العمال، كيف كان المصنع يصدر منتجاته إلى الشرق الأوسط وأوروبا، وكان بوسعه – لو تُرك على حاله – أن ينافس مصنوعات الزجاج ومشغولاته.. التي نستوردها من تشيكيا وبلجيكا. لكن الإدارة التي تسلمته بعد التأميم، لم تُحسن تطويره، وانتهى به الأمر إلى خسائر فادحة، حتى إن أجور عماله.. صارت تُدفع من خزينة الدولة. 

تذكرت مناكفتنا للدكتور «رياض الشيخ» – أستاذ المالية العامة بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية ـ جامعة القاهرة – وقت أن كان يؤكد لنا: أن من بأيديهم القرار، لم يفرقوا بين أصحاب أرض ومصانع.. بنوا ثرواتهم من عرق جبينهم، وحسن تدبيرهم، وبين أولئك الذين حازوا الأرض والشركات.. لعلاقة فاسدة مع السلطة السياسية. ولم يفرقوا أيضاً بين من كانوا يعاملون الفلاحين والعمال.. كعبيد إحساناتهم، وبين من عاملوهم.. وفق مقتضيات الإدارة الحديثة الناجحة. 

نعم، كان التأميم – في أغلبه – لصالح الشعب، فتوسع التعليم، وخُلقت طبقة وسطى.. هي الأعرض في تاريخ مصر، لكن أثر كل هذا.. كان سيكون أقوى لو تُرِكت «الرأسمالية الوطنية» تعمل.. وفق حوافزها الفردية، وفرَّق أصحاب القرار.. بين فاسدين نهبوا وأثروا بلا سبب، وبين مكافحين عرقوا.. حتى صارت بين أيديهم ثروات طائلة.

نقلاً عن «المصري اليوم»

شارك هذه المقالة