سمير مرقص
في فيلم «البابوان» الذي يحكي قصة تنازل البابا «بنديكت السادس» عن الكرسي البابوي الفاتيكان إلى «الكاردينال خورخي بيرجوجليو»؛ رئيس كرادلة الأرجنتين الذي صار البابا فرنسيس بعد ذلك، عبارة غاية في الأهمية. أظنها تمثل مفتاح شخصية الرجل.. كشخصية استثنائية تاريخية. تقول العبارة التي وردت على لسان «الكاردينال بيرجوجليو»: «ابنوا جسوراً لا جدراناً».
كان الكاردينال «بيرجوجليو» يوجه كلامه إلى البابا «بنديكت» – في سياق حوار طويل – أفصح فيه الأخير أنه: «لم يعد فقط يميز صوت الناس، وإنما أيضاً صوت الله». فما كان من البابا المنتظر (فرنسيس).. إلا أن أجابه بالعبارة التي ذكرناها بضرورة بناء الجسور لا الجدران. إذ قصد بها أن «الانفصال عن العالم والبشر والمجتمع، تفصل المرء عما حوله».. وفي الأغلب يترتب على الانفصال، سوء إدراك ما يجدُّ من مستجدات على أحوال البشر وأوضاع العالم، ويولد الجهل بالمستجدات المجتمعية الاختباء وراء جدران: الجمود المعرفي، والتحريم السلطوي، والتطبيق الحرفي للنصوص.. الذي يؤدي إلى إماتة الأرواح. وبالأخير، ليس فقط عدم تمييز صوت الناس، وإنما – أيضاً – «صوت الله» كما عبَّر «البابا بنديكت» في الفيلم.
إنها لحظة نهاية، شعر بها – وعبَّر عنها بأمانة – «البابا بينيديكت» ودفعته ـ بمسؤولية – إلى فتح أفق حواري مع الكاردينال الأرجنتيني حول – ليس فقط – مستقبل الفاتيكان.. المؤسسة، وإنما مستقبل الناس.. وكيفية بناء الجسور معهم. من هنا فقط يبدأ التجديد الفكري والديني والمؤسسي.
وعلى بساطة العبارة وقصَرها، إلا أنها تعكس في واقع الحال نهجين: الأول: نهج بناء الجسور؛ أو الانفتاح، والحوار، والتفهم، والتواصل. والثاني: نهج بناء الجدران؛ أو العزلة والتعالي، والانفصال، وإطلاق الأحكام.
والمتابع لمسار الرجلين، سوف يلحظ أنهما متناقضان كلياً، فالرجل القادم من الأرجنتين.. هو ابن بيئته ومجتمعه، الذي يعاني واقعاً أليماً اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً، ومن ثم التزم أن يكون بين الناس وأن يعيش حياتهم، فكان ينتقل بين رعيته بالدراجة. وإذا استدعت الحاجة إلى السفر بين البلدات.. كان يركب أوتوبيسات الأقاليم؛ مثله مثل أي مواطن. إذ لا مجال للترف والرفاهية، في مجتمع يعاني تاريخياً الحروب والانتهاكات، والتخلف الاجتماعي والاقتصادي.
لذا عُرف بكاردينال الهوامش – أو الأحياء الأكثر فقراً الخالية من الخدمات والمرافق الأولية الإنسانية – Bishop of Slums؛ وفي هذا المقام، أنجز وثيقة استرشادية – من واقع الخبرة العملية ـ يتبعها رجال الدين في أمريكا اللاتينية، تتمحور حول كيفية خدمة الفقراء وثقافتهم. كما لعب دوراً كبيرا ومهماً في مداواة وجبر الآثار السلبية.. لما يُعرف «بالحرب القذرة»، تلك هي الحرب الأهلية التي جرت في الأرجنتين بعد منتصف السبعينيات.
في المقابل، كان البابا بنديكت يمثل مساراً نقيضاً، فمنذ كان كاردينالاً يحمل اسم «جوزيف راتزينجر»، وكلفه البابا يوحنا بولس الثاني عام 1981 برئاسة مجمع العقيدة والإيمان، لم يعط نفسه مساحة لتفهُّم التحولات الجارية في العالم، أو التواصل مع التصورات التحررية.. لدور الدين في مجتمعات من خارج المنظومة الأوروبية – التي تعاني اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً – وأقصد بها حركة لاهوت التحرير (راجع دراستنا المبكرة تجربة لاهوت التحرير المنشورة في دورية القاهرة الشهرية – يناير 1994، التي سنضمنها كتابنا: مواطنة بلا أوصياء: من ناسوت الغضب ولاهوت التحرير إلى المواطنين)؛ فقد كانت الحركة مراجعة حقيقية لواقع الكنيسة في أمريكا اللاتينية، التي كانت منحازة إلى ما يُعرف في الأدبيات اللاتينية بطبقة الكريول. ومن ثم عمد «راتزينجر» إلى تصفيتها بالمحاكمات والإقصاء. بالرغم من أن الفاتيكان تاريخياً كان قد استجاب.. ككنيسة مركز، إلى تصورات مجمع الأساقفة الكاثوليك في أمريكا اللاتينية التجديدية ـ ككنائس أطراف ـ الذي انعقد في سنة ،1955 بتنظيمه مجمع الفاتيكان الثاني.. الذي أطلق رؤية شاملة تجديدية في عموم الكنيسة الكاثوليكية.
لا شك أن البابا فرنسيس يُعد شخصية استثنائية تاريخية؛ فما أن حلت الانتخابات البابوية لانتخاب خليفة للبابا بنديكت عام 2013، رفض السفر لحضور الانتخابات بتذكرة درجة أولى، فجاء إلى روما بتذكرة اقتصادية. وعند انتخابه، رفض أن يحمل رقماً ..لأن الترقيم هو إرث إمبراطوري. لم يتغير الرجل بعد انتخابه قط. فجاءت مواقفه العملية متسقة مع ما آمن به، ولم يتخل – بالرغم من أي انتقادات وُجهت إليه من المحافظين أو الليبراليين – عن تجرده وزهده، وبلورة رؤى وآراء تجديدية تواكب العصر، ومقاومة لأبنية الجور السياسية والاقتصادية. إذ مارس الإصلاح «بنَفَس» راديكالي. ونشير هنا – على سبيل المثال لا الحصر – إلى عدة وثائق غاية في الأهمية، وإعلانات للمواقف.. صنع بها البابا فرنسيس التاريخ، حسب بول فاللي في كتابه: البابا فرنسيس: حلّال العقد Pope Francis: Untying The Knots؛ الوثيقة الأولى: العناية بالبيت المشترك (العالم)، والوثيقة الثانية: الإيمان والعلم، والوثيقة الثالثة: الأخوة الإنسانية. إضافة إلى ما سبق، لا بد من الإشارة إلى إدانته لكل من الإمبريالية القديمة والجديدة قبل عامين.. أثناء زيارته للكونغو، وفي معرض تنديده بالحرب الروسية-الأوكرانية.. التي تحكمها المصالح الإمبريالية. (راجع مقالاتنا في هذا المكان المعنونة: البابا فرنسيس وإدانة الإمبريالية القديمة والجديدة، البابا فرنسيس والإيمان والعلم لإنقاذ الأرض، البابا فرنسيس بابا المصالحة والتاريخية والتجديد،…). كما نشير إلى أن رؤيته الروحية واللاهوتية.. ضمنها كتابه: حياته بكلماته.
ونختم بقصة واقعية – كنا علقنا عليها في حينها – تعكس بصدق وببساطة من هو البابا فرنسيس. ففي عام 2019، كان البابا يستعد لإلقاء كلمة على الحضور، وفوجئ باندفاع أحد الأطفال نحوه.. «يشاغله» وهو جالس على المنصة. انتابت الجميع حالة من الارتباك، خاصة أن البابا فرنسيس ظل يتأمل – بابتسامة – حركة الطفل. حينئذ توجهت أم الطفل إلى البابا لتوضيح ما وراء «اندفاعة» طفلها المفاجئة للجميع. بدأ البابا فرنسيس يوجه كلامه للحضور، مشاوراً على الطفل، معلناً ما يلي: «إنه أبكم». ولم يكتفِ البابا بما أعلنه عن الطفل، ولكنه استطرد مثنياً عليه بقوله: «ولكنه لديه قدرة على التواصل والاتصال»؛ نعم «قد يبدو غير منضبط، ولكنه حر».
نقلاً عن «الأهرام»