Times of Egypt

الانحدار وبعده السقوط.. حال نظام دولي ونظام إقليمي

M.Adam
جميل مطر 

جميل مطر

أيام تاريخية.. تلك التي نعيشها، كل يوم يمر علينا.. يترك وراءه علامة جديدة، على أن «النظام» العالمي، كما «النظام» الإقليمي العربي، انتقل خلال اليوم – درجة أو درجات – نحو هاوية. وفي أحسن الأحوال، نحو فوضى أشمل، وأوسع مجالاً، وأكثر تنوعاً.

نظرت حولي وورائي وأمامي، ورأيت – من وراء الغيوم – أياماً قادمة، تشبه أياماً عاشتها شعوب.. خلال الفترة ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية؛ عاشت حرباً في منشوريا.. شنَّتها الإمبراطورية اليابانية ضد الصين. وعاشتها في شرق وشمال أفريقيا، عندما شنَّت حكومة الفاشيين الإيطاليين.. حرباً ضد الحبشة، وأخرى ضد ليبيا. 

هذه الأيام، نعيش حرباً لا تقل وحشية أو ضراوة.. تشنُّها حكومة إسرائيلية فاشية التكوين، وبأهداف توسعية وأساليب سادية، ضد شعب فلسطين، وشعوب أخرى في لبنان وسوريا وإيران. ولم تتأخر في نقل رسالتها – أعني رسالة الإبادة والتدمير – إلى شعوب الخليج ومصر والعراق وتركيا.
***
الجديد – بين ما أفرزته أحداث وتغيرات وقعت خلال الأسابيع الأخيرة – هو انكشاف حال ومكانة وهيبة.. القطب الأعظم في النظام العالمي. يقف ممثل القطب الأوحد – في نظام الهيمنة – ويهاجم منظمة الأمم المتحدة.. الأداة الرئيسية في هيكل النظام العالمي. ويكاد يقصم ظهرها.. سخرية وسخفاً وتهديداً. ولعله نجح في تحقيق هدفه.. من خطابه من فوق منبرها، وإن بعد شهور من العمل الدءوب.. لتفكيكها وإضعاف مؤسساتها.

توقعت من الحضور ترك مقاعدهم.. احتجاجاً؛ فالإهانة كانت موجَّهة لهم.. جمعاً وتكتلات، ولكل منهم مفرداً. لم يتركوها حينئذ. تركوها بالفعل.. عندما حضر للقاعة رئيس وزراء إسرائيل. ارتحنا – أنا وأمثالي – معتبرين المغادرة.. غير المسبوقة في حجمها، موجَّهة ضد أنصار الوضع القائم في عالم اليوم؛ ضد إسرائيل ودول أخرى، جعلت هدفها التخلص من نظام دولي.. هي صانعته.
***
على هامش خطابه في المؤتمر، أدلى الرئيس ترامب بتصريح قوي وصريح.. أكد – من خلاله – نيته، التي سبق وأعلنها في الأيام الأولى من ولايته الثانية، عن إقامة منتجع سياحي في غزة.. بعد إخلائها على مقاس الريفييرا الفرنسية. 

  • سُئل، فأجاب بأنه سوف يحصل على غزة. 
  • سُئل عن قصده، فأجاب أنه.. لن يشتريها؛ باعتبار أنها صارت خراباً. 
  • سُئل، فأجاب.. بأن سكان غزة سوف يحصلون على مكافأة مادية مريحة؛ من بقي منهم، ومن غادر. 
  • سُئل مرة أخرى، فأجاب أنه.. عندما يحصل عليها، فإننا «لن نصلح أو نعمر ما خربته القنابل، العرب سوف يتكفلون بهذه المهمة». 
  • ويعود فيؤكد.. أنه لن يشتريها، ولكنه سوف يحصل عليها، أليست أمريكا صاحبة السلطة والقرار في هذا العالم. عالم بنظام دولي منهار، ونظام إقليمي «مضعضع«.

لم يفاجئني هذا التصريح، ولا ما سبقه، أو لحق به.. في هذا اليوم المشهود. إنما بقيت بقية اليوم مشدوهاً.. بالنوعية الخاصة جداً التي صُنع منها هذا الرجل. 

… جاء منذ اليوم الأول لولايته الثانية، مصراً على أن يحصل على ما يريد لنفسه، أو لبلده، وكلاهما – في عُرفه – شيء واحد.. لا ينفصلان، كاد ينطق بالعبارة الشهيرة.. «أنا الدولة والدولة أنا«. 

قال إنه سوف يغير اسم الخليج المكسيكي.. إلى الخليج الأمريكي.. تمهيداً لأمركة دويلاته وجزره، وثرواته السياحية، وسوف يحصل على جرينلاند. حاول وفشل. 

ثم أعلن في وثيقة – بالفعل تاريخية.. في شذوذ فقراتها العشرينية، وفي صمت العرب حيالها – أنه حصل لعائلته على غزة، لتصبح منتجعاً كالريفييرا. الرغبة التي سبقت أن أدانته.. متواطئاً في حرب الإبادة والتجويع والتهجير القسري. 

ورغم الإدانة، استمر مصراً.. حتى أفلح، أو هكذا يبدو.
***
جدير بالذكر، أن الرئيس ترامب لم يفلح في محاولة الاستيلاء على جرينلاند، ولا أظن أنه سوف يكرر قريباً المحاولة؛ لأنه ربما اكتشف ما اكتشفناه على البُعد، وهو وضع النظام الأوروبي الحرج.. في هذه اللحظة من مرحلة شديدة التعقيد، في العلاقات الأمريكية الأوروبية، وبخاصة في الجانب المتعلق بالحلف الأطلسي. هناك استقبلوا نائبه بالرفض.

لم يفلح في جرينلاند، ولكنه أفلح – أو كاد يفلح – في غزة. أفلح في غزة – أو كاد – لأنه وجد نفسه أمام نظام إقليمي مفكك؛ نظام يفتقر إلى قيادة طرف مفرد، ومتمكن، أو إلى قيادة جغرافية – أو ثقافية – محدودة العضوية، أو إلى قيادة جماعية. 

لا يمكن أن نغفر لأعضاء النظام الإقليمي.. مسؤوليتهم عن هذا التدهور، حيث لم يعد النظام لاعباً أساسياً، ولا محسوباً في الجغرافية السياسية للشرق الأوسط. صار مخترقاً من جهاته الأربع، ومن داخله، من جانب الدولة العدو؛ بعمليات تطبيع، أو بعمليات عقاب واحتلال قُطرية.. أو بكليهما معاً، وفي آن واحدة.

 تدنَّى أداء النظام العربي.. حتى أصبح طرفاً غير فاعل، أو فاعلاً بسلبيته، في صُنع أو إدارة القضايا الداخلة في أدق اختصاصاته؛ وأهمها التكامل الاقتصادي، والتنسيق الأمني.. بين دول النظام.
***
تدفعنا تطورات الأيام الأخيرة، إلى ضرورة تتبع السباقات الجارية.. حول رسم خريطة مختلفة للشرق الأوسط. أطراف السباقات يتزايدون. 

كانت الخريطة عثمانية.. برضاء أهم إمبراطوريات ذلك الحين. ولم يكن مسموحاً نظرياً – معظم الوقت – لدول أوروبية أو لمصر بالتدخل؛ منتهزين فرصة تدهور صحة الإمبراطورية العثمانية. 

زالت الإمبراطورية بانتصار الغرب، وصار الشرق الأوسط ساحة مفتوحة للسباق. 

دخلت بريطانيا وفرنسا، فأدارتا أول سباق لرسم خريطة سياسية لدول في الشرق الأوسط.. على وشك الحصول على الاستقلال. 

وبعدها تاريخ طويل من محاولات تغيير ما سبق، ورسمته كل من فرنسا وبريطانيا. 

تدخلت مصر لتمنع هيمنة العراق على سوريا، ثم تدخلت مع دول أخرى لمنع الأمير عبدالله من فرض هيمنته على كل فلسطين، ثم لمنع الرئيس صدام عن ضم الكويت. 

وفي مراحل أخرى، جاء دور دول الخليج.. لتسهم بدور ورأي، في حدود دول منطقة الشام وأنظمة الحكم فيها. 

في الوقت نفسه، رأينا الدول المجاورة – غير المحسوبة عربية – تتدخل لتغيير معالم مهمة في الشرق الأوسط.. لصالحها؛ تدخلت إيران، وتدخلت تركيا.. في كل المراحل – من على البُعد، أو من قلب الشرق الأوسط – كما تدخلت الولايات المتحدة؛ مستخدمة – أحياناً – أخطر وسائل التدخل وأحدثها.. ألا وهي المنظمات الإرهابية، وما صار يُعرف بـ «الحرب العالمية ضد الإرهاب».

في السنوات الأخيرة، انتبهت إسرائيل إلى أهمية هذه السباقات، فراحت – هي الأخرى – تتدخل.. بأبشع صور التدخل، تحت عناوين أبرزها عنوان «إسرائيل الكبرى»، العنوان الذي صار شائعاً.. أكثر من أي عنوان سبقه، على الأقل منذ خريطة سايكس بيكو.

خفتت – ولا شك – في الآونة الأخيرة.. أصوات دول كانت من بين أنشط محترفي رسم خرائط للشرق الأوسط، وارتفعت – ولا شك – أصوات دول.. لم نكن نسمع عن نشاط لها في هذا المجال، ولا شك أن الصوت الأعلى الآن في هذه المجموعة.. هو لإسرائيل.

على ضوء الأوضاع العربية الراهنة، وعلى ضوء الأوضاع الدولية المحيطة بنا، أستبعد أن أرى في الأجل المنظور.. دوراً للنظام العربي بشكله الراهن، في وقف سباقات رسم خرائط أحدث.. لشرق أوسط كبير وجديد؛ خرائط لا مكان فيها لدولة فلسطينية حقيقية، ولا لدولة بتطلعات عروبية، ولا لمناهج تعليم غير المناهج الإبراهيمية. 

هذه – وغيرها كثير – تضمَّنه «ميثاق السلام».. الذي وضعه المخرِّب الأكبر للعراق.. توني بلير. وحمل اسم دونالد ترامب.. الشريك في حملة إبادة شعب فلسطين في غزة والضفة، وصاحب قرار القدس عاصمة أبدية لإسرائيل، وفي الوقت نفسه.. صاحب عبارة «صانع سلام الشرق الأوسط«.

نقلاً عن «الشروق«

شارك هذه المقالة