د. أحمد زكريا الشلق
كان محمد سعيد باشا أول من أنشأ متحفاً للآثار الفرعونية عام 1858، وإدارة للآثار، وقد تولى «مارييت» الفرنسي رئاستهما. أما الخديوي إسماعيل، فقد أسس عام 1869.. أول مدرسة مصرية عليا لدراسة المصريات، عُرفت باسم «مدرسة اللسان المصري القديم»، وقد تولى الألماني هنريش بروجش رئاستها، والتحق بها عشرة من الطلاب المصريين.. ممن يجيدون الفرنسية – التي كانت لغة التدريس فيها – وقد درسوا الكتابة المصرية القديمة، واللغة القبطية، بالإضافة إلى دراسة اللغتين الألمانية والإنجليزية، وتاريخ مصر القديم وأصول علم الآثار.
كذلك فإن بروجش – إلى جانب إدارته المدرسة، وتكوينه الطلاب المصريين – كان يلقي محاضراته عن تاريخ مصر القديمة.. بمدرسة «دار العلوم»، كما كان ينشر بعضها في مجلة «روضة المدارس المصرية»؛ التي كان رفاعة الطهطاوي رئيساً لتحريرها. وقد نشر بها بروجش مقالات عن ملوك مصر القديمة، وأصول الكتابة المصرية القديمة، مما أتاح الفرصة لنشر المعرفة بالمصريات، وتاريخ مصر القديم.. باللغة العربية لأول مرة. وقد تدرَّب طلاب المدرسة على الحفائر الأثرية في صعيد مصر، وتخرج في هذه المدرسة سبعة من الطلاب المصريين، كان على رأسهم أحمد كمال – أول عالم مصريات مصري – غير أن مارييت رفض قبولهم للعمل بإدارة الآثار.. خشية إحلالهم محل الأوروبيين، بل أكثر من هذا، أمر بمنعهم من نسخ النصوص القديمة، فاضطر هؤلاء للاشتغال بالتدريس والترجمة.. ثم أُغلِقَت المدرسة في عام تخرجهم (1872).
ومع ذلك أسهمت جهود بروجش في نشر الوعي بالتاريخ القديم لمصر.. بين المتعلمين ورجال السياسة، وتجلى ذلك في الخطاب السياسي والثقافي.. الذي تغنَّى بمجد مصر القديم، وهو ما ظهر في كتابات الطهطاوي وعلي مبارك وميخائيل عبد السيد، ثم في أحاديث أحمد عرابي وعبد الله النديم.. كما تجلّى في تصميم الجناح المصري.. في معارض لندن وباريس والولايات المتحدة، على النسق الفرعوني، أو في اتخاذ الأهرام وأبي الهول رمزاً لمصر.. على طوابع البريد وغيرها. واتخاذ اسم «الأهرام» اسماً لأبرز الصحف التي صدرت بمصر.. في الربع الأخير من القرن التاسع عشر.
هذا الوعي بالتراث المصري القديم، ما كان ليتحقق.. لولا الدور المهم الذي لعبته أول مدرسة مصرية للمصريات، وهي مدرسة اللسان المصري القديم، رغم قصر عهدها (1869-1872).
ولعل هذه المعرفة بالتراث التاريخي لمصر القديمة، هي التي جعلت رفاعة الطهطاوي – وهو يُعِدُّ كتابه عن «تاريخ مصر» – لا يبدأ بالفتح الإسلامي، بل بتاريخ مصر القديم؛ حيث خصص الجزء الأول منه للتأريخ لعصور.. الفراعنة والبطالمة والرومان والبيزنطيين، والعرب قبل الإسلام، وقد طُبِعَ هذا الكتاب عام 1868. وبهذا كان الطهطاوي أول مؤرخ مصري.. عرَّف بتاريخ مصر، على ضوء الاكتشافات الأثرية، وما كتبه المؤرخون الأوروبيون عنها في عصره؛ ومن ثم أيضا.. كان أول مؤرخ مصري آمن بأمجاد التاريخ المصري الفرعوني، واعتز بمصر التي رآها.. أم الحضارات. وكان ذلك من مظاهر النهضة، وتشكيل الوعي القومي الجديد؛ مما أصبح له تأثيره في الأجيال التالية التي قادت الحركة القومية في مصر.
وفي عام 1859، أسست نخبة من الجاليات الأجنبية بالإسكندرية.. «المجمع المصري»، استلهاماً لذكريات المجمع العلمي المصري.. الذي أقامه بونابرت في مصر، فأرادوا إحياءه تحت رعاية محمد سعيد باشا.. حاكم مصر آنذاك، ولكن ليصبح اهتمامه مركزاً على الآثار المصرية، والتراث المصري القديم. وقد تعاقب على رئاسته خلال الفترة (1861-1917) أربعة من الفرنسيين، خلَفهم يعقوب أرتين وكيل وزارة المعارف. وكانت الفرنسية لغة الإدارة، وقد حدد المجمع هدفه.. بأنه «إحياء المعارف القديمة على ضفاف النيل، تلك المعارف التي تعود إليها عظمة مصر القديمة.. مهد الآداب والفنون والعلوم».
وبالرغم من أن الأجانب كانوا يمثلون أغلبية أعضائه، فقد ضم نخبة من المصريين؛ منهم رفاعة الطهطاوي وعلي مبارك ومحمود الفلكي، وكان الأخير عضواً بمجلس إدارته، وقد ألقى فيه محاضرات عن تاريخ مصر القديم، كما قدم دراسة لفرع النيل (الكانوبي).. الذي يصل رشيد بالإسكندرية. وقد نشر الفلكي دراساته في عدد من الدوريات العلمية الأوروبية الشهيرة. كذلك انضم إلى هذا المجمع عام 1904 أحمد كمال الذي يعد أول عالم آثار مصري.
ويُلاحَظ أنه – بعد أن كان قدوم الأجانب إلى مصر مقصوراً على الرحالة، وبعثات جمع الآثار.. للاتجار بها في أوروبا – شهدت مصر في النصف الثاني من القرن التاسع عشر تطورين مهمين:
أولهما: اشتراك مصر في المعارض الدولية، فكان اشتراك مصر في المعرض الصناعي الدولي في لندن عام 1851، بجناح صُمِّمَ على الطراز الفرعوني.. أمراً جديداً ومهماً، كما شاركت مصر في المعرض الدولي بباريس عام 1855، ثم اشتراكها عام 1867 في معرض باريس أيضاً، حيث شهد المعرض جناحاً مصرياً متميزاً عبَّر عن تراث مصر الفرعوني والإسلامي.
وثانيهما: رواج حركة السياحة الأوروبية المتجهة إلى مصر.. لمشاهدة آثارها، وكانت أفواج السائحين ينظمها بيت سياحي بريطاني (توماس كوك وولده).. بين أوروبا وأمريكا ومصر، مستخدماً السفن البخارية، ومبتدعاً خطوط البواخر النيلية، علاوة على تشجيع إقامة الفنادق، والمشاركة في إنشائها بالأقصر وأسوان والقاهرة. ثم جاء امتداد خطوط السكك الحديدية إلى أسوان، ليختزل زمن الرحلة وتكاليفها.. مما زاد من أعداد الرحلات والأفواج السياحية. ومع ظهور التصوير الفوتوغرافي، بدأت تظهر صناعة طبع الصور.. التي تعبّر عن الآثار المصرية، وظهور البطاقات البريدية – التي تحمل صور الآثار المصرية – التي يرسلها السياح من مصر إلى ذويهم في بلادهم.
نقلاً عن «الأهرام»