أحمد زكريا الشلق
في عام 2002، ألّف الدكتور رونالد مالكولم ريد – الأستاذ بجامعة جورجيا الأمريكية – كتاباً مهماً بعنوان «فراعنة من؟ علم الآثار والمتاحف وهوية مصر القومية.. من نابليون حتى الحرب العالمية الأولى»، أثبت فيه كذب هذه الفرية التي روَّج لها الأوروبيون في ثقافتهم، التي ترى أن المصريين لم تكن لهم أي معرفة، أو علاقة بعلم الآثار.
وقد قدَّم «ريد» أدلة على أن كُتاب الخطط.. كتبوا عن الآثار المصرية، وقدموا وصفاً لها، في العصر الذي كتبوا فيه مؤلفاتهم وخططهم وحولياتهم، قبل القرن 19. ثم جاء القرن 19 – قرن الاكتشافات العلمية – لتُبرز كتابات عبد الرحمن الجبرتي ورفاعة الطهطاوي وعلي مبارك.. أهمية هذه الآثار على نحوٍ جديد، والأهم من ذلك اهتمامهم بتاريخ مصر القديم، وكتابتهم التي أظهرت الوعي بالقيمة التاريخية لما يقع على أرض مصر من شواهد أثرية.. تدل على ثرائها الحضاري العريق.
ولذلك كله، يصبح اتهام المصريين.. بعدم إدراك القيمة الحضارية للحضارات القديمة التي قامت في بلادهم؛ مجرد مبرر لاستلاب المصريين آثارهم الثمينة، لتعمر بها متاحف أوروبا ولتزدان ميادينها بالمسلات المصرية. لقد نقض «ريد» مقولة.. إن علم الآثار علم غربي، حيث حرص على تسجيل اهتمام الكتاب المصريين بالآثار، مما ألقى الضوء على الوعي بتاريخ مصر القديم وتراثها الحضاري عند المصريين. كما سجل فضل محمود الفلكي.. في ريادة الحفائر الأثرية بالإسكندرية. وعلى نحوٍ خاص أفرد مساحةً أوسع من كتابه لدراسة 3 من رواد العمل الأثري من المصريين هم: أحمد كمال وعلي بهجت ومرقص سميكة.
وعند متابعة تاريخ هذه الجهود، تتضح محاولات الأجانب إبعاد المصريين عن ميدان الآثار، مما تمثل في صورة صراع بين المصريين والأجانب.. من أجل تحرير بلادهم من السيطرة الأجنبية، وهو ما يبرز عند دراسة العلاقة بين الرائدين.. أحمد كمال وعلي بهجت، وموقفهما من الأجانب.. في سياق العمل الوطني، الذي استهدف الحفاظ على الهوية المصرية.
والواقع، أنه لا يمكن فهم هذه التطورات.. دون رصد معالم النهضة العلمية والثقافية، التي صاحبت مشروع محمد علي (1805-1848).. لإقامة نظام تعليم مدني حديث. إلى جانب حركة الترجمة، بالإضافة إلى الانفتاح على الحضارة الغربية ومعارفها الحديثة. كذلك لابد من رصد التطورات.. التي شهدتها مصر في عهد الخديو إسماعيل (1863-1879)، ومشروعه الثقافي الكامل.. الذي تولى صياغته علي مبارك بمساعدة الطهطاوي.
وفي النصف الثاني من القرن 19 – عصر نضوج الثورة الصناعية في أوروبا وهيمنتها على الأسواق العالمية – لعب الأوروبيون دوراً رئيسياً.. في وضع أسس «علم المصريات»، وفي إرساء دعائم علم الآثار، والعناية بها وإقامة المتاحف في مصر. ويعني ذلك ضرورة رصد الارتباط بين هذا الاهتمام بالآثار.. من جانب الأوروبيين، وبين الموجة الإمبريالية التي استهدفت فتح الأسواق.. لاستثمار فائض رؤوس الأموال، وتصريف الإنتاج، وسعيها لحماية مصالحها.. من خلال الهيمنة السياسية على مصر.
لقد سيطر الأوروبيون على الإدارات التي عُنيت بالمتاحف والآثار، خلال الفترة (1858-1908). وهي المتاحف المصرية الأربعة التي أقيمت خلال هذه الفترة:
المتحف المصري (الآنتيكخانة)؛ الذي خصص لآثار مصر في العصر الفرعوني. وقد أنشئ المتحف المصري عام 1858 – في عهد والي مصر آنذاك.. محمد سعيد باشا (1854-1863) – على شاطئ النيل.. عند بولاق، لتيسير نقل الآثار من الصعيد عن طريق النيل، واشتمل مبناه على: «مصلحة الآنتيكخانة» – التي كانت تابعة لوزارة الأشغال العمومية – وصالات عرض التحف الأثرية، ثم مقر إقامة المدير. ولما ضاق المكان، انتقل المتحف إلى قصر الحرملك بالجيزة – في أواخر عهد الخديو إسماعيل – ثم نقل إلى مكانه الحالي بميدان التحرير.. في عهد الخديو عباس حلمي الثاني عام 1902، وظلت إدارته بيد الفرنسيين.. حتى أواسط القرن 20.
المتحف اليوناني-الروماني.. الخاص بتاريخ مصر خلال هذا العصر، وقد أقيم بالإسكندرية، بعد أن زاد الاهتمام بالآثار.. خلال العقود الأخيرة من القرن 19، وازداد البحث في تاريخ الإسكندرية، ويرجع ذلك إلى جهود الأثري المصري الكبير محمود الفلكي، الذي كان له فضل ريادة الحفائر الأثرية بالإسكندرية، التي هدفت التحقق من بعض مواقع الإسكندرية القديمة، وإعداد خريطة لها.
وفي عام 1854، أسس بعض الإيطاليين «الجمعية الأثينية» بالإسكندرية، التي استطاعت إقناع مجلس بلدي المدينة.. بإنشاء المتحف اليوناني-الروماني، ووافقت الحكومة.. مشترطة أن يخضع المتحف لإشراف مصلحة الآثار.
ثم تأسست «جمعية آثار الإسكندرية» عام 1893، لترعى إقامة المتحف الذي أقيم بالفعل عام 1897، وظلت إدارته في يد الإيطاليين.. حتى أواسط القرن 20.
المتحف القبطي.. الذي أقيم بمصر القديمة، بجوار الكنيسة المعلقة، بمبادرة من أحد أعيان الأقباط.. وهو مرقص سميكة، وكان قد بدأ الاهتمام بالموضوع.. بدعم من الكنيسة القبطية للجنة حفظ الآثار عام 1896، ثم كان التحاق مرقص سميكة باللجنة عام 1906، علامةً فارقةً في النشاط القبطي بمجال حفظ الآثار القبطية، وقد لقي تشجيعاً ودعماً من البطريرك كيرلس الخامس، حتى افتتح المتحف للجمهور عام 1910، ثم صار يتوسع تدريجياً.. حتى صار حلقةً مهمةً في سلسلة المتاحف المصرية.
متحف الفن العربي، الذي عرف بـ متحف الفن الإسلامي.. فيما بعد. وقد بدأت فكرته عندما شكلت لجنة لحفظ الآثار عام 1869 في عهد إسماعيل. وكانت جهودها تنصب أساساً على ترميم المساجد التاريخية، ثم تولت إقامة هذا المتحف عام 1884، ثم حمل اسم متحف الفن الإسلامي منذ عام 1903.
وبالرغم من أن المصريين عرفوا علم الآثار عن طريق الأوروبيين، فإنهم ما لبثوا أن امتلكوا ناصيته، وتأكيد استقلالهم وهويتهم.
نقلاً عن «الأهرام«