Times of Egypt

الإفلات من العقاب

M.Adam
د. أحمد يوسف أحمد  

د. أحمد يوسف أحمد..


لم تعد هناك ذرة من الشك.. في أن جرائم إسرائيل في غزة والضفة، قد فاقت كل الحدود – بجميع المعايير الإنسانية والقانونية – بمقاييس العصر الذي نعيشه الآن؛ فالأمر المؤكد.. أن كل قوى الاحتلال والاستيطان الإحلالي العنصري، قد ارتكبت – عبر التاريخ – من الجرائم البشعة ما ارتكبته؛ سواء عبر إبادة السكان الأصليين.. في القارة الأمريكية، أو إبان الحقبة الاستعمارية في أفريقيا وآسيا. غير أن التصوُّر شاع عقب الحرب العالمية الثانية؛ بأننا دخلنا مرحلة جديدة بعد هزيمة النازية.. التي ارتكبت بدورها جرائم بشعة، وصعود حركات التحرر الوطني.. التي نجحت في انتزاع استقلال المستعمرات في خمسينيات القرن الماضي وستينياته، غير أن قوى الاستعمار والهيمنة شاءت لمنطقتنا.. أن يتزامن هذا المد التحرري مع بداية لمشروع استعماري جديد، بالتواطؤ بين الحركة الصهيونية والقوى الاستعمارية؛ ممثلة في بريطانيا بصفة خاصة.. التي وضعت الأساس من خلال وعد بلفور 1917، ثم الانتداب البريطاني على فلسطين 1922، لدولة يهودية في فلسطين.. تحقق الهدف الرئيسي للحركة الصهيونية.
وبالفعل نجحت الحركة – وداعموها من قوى الاستعمار والهيمنة – في إعلان دولة إسرائيل على أكثر من نصف أرض فلسطين في 1948، وكان إرهاب العصابات الصهيونية للشعب الفلسطيني.. هو الآلية الرئيسية لتثبيت أركان الدولة المغتصِبة، التي فشل التدخل العسكري العربي في وأدها. ومنذ ذلك الوقت وحتى الآن، تعرَّض الشعب الفلسطيني لإرهاب إسرائيل – بدعم كامل من الغرب عامة، والولايات المتحدة خاصة – ثم طال هذا الإرهاب شعوباً عربية أخرى.. على نحو ممنهج، كما تُثبت خبرة السلوك الإسرائيلي عامة – وفي مصر وسوريا والأردن ولبنان خاصة – في السنوات 1956 و1967 و1982 و2006،وصولاً إلى الجرائم الحالية البشعة.. في غزة والضفة ولبنان وسوريا.
وفي هذا السياق تبرز الجرائم – التي ترتكبها إسرائيل في غزة والضفة – كنموذج صارخ لإرهاب الدولة الإسرائيلية، وارتكابها جريمة الإبادة الجماعية.. بحق الشعب الفلسطيني؛ فهي لا تقاتل عناصر المقاومة فحسب، وإنما تقصف وتحرق كل شيء.. بما في ذلك مساكن المواطنين ومخيمات النازحين، ولا تستهدف مقار المقاومة فحسب.. وإنما تدمر كل شيء؛ بما في ذلك دور العبادة والمستشفيات والمدارس والجامعات، والبنية التحتية.. بما يحرم السكان من الخدمات الضرورية لاستمرار حياتهم. وهي تمارس حرب التجويع والتعطيش بحيث تقتل بهذا النوع من الحرب.. من لم تتمكن من قتله بالقصف، والحجة دائماً.. هي أن مقاتلي المقاومة يتخذون من كل هذه المنشآت المستهدفة – بما في ذلك مخيمات النازحين -قواعد لهم أو مقارَّ لقيادتهم، ويتخذون من المواطنين الذين تقتلهم دروعاً بشرية. علماً بأنها لم تقدم – ولا مرة – دليلاً على صدق مزاعمها.. مكتفية بالقول إنها ارتكبت جرائمها بناءً على «معلومات مخابراتية مؤكدة»!
ومع اعترافنا بكفاءة الأجهزة الاستخباراتية الإسرائيلية، إلا أن سقطاتها لا تخفى أيضاً على أحد. ولذلك فإن كل المزاعم بأن هجماتها الوحشية.. كانت تستهدف مقاتلي المقاومة.. بحاجة إلى إثبات، خاصة أنها تكتفي بالقول إنها قتلت مقاومين، دون أن تُظهر أي دليل على ما تقول. كما أن بعض ادعاءاتها بقتل مقاومين بعينهم، اتضح لاحقاً أنهم استُشهدوا في تاريخ سابق، أو ما زالوا على قيد الحياة. كذلك فإن عديداً من شهادات الناجين من جرائم الإبادة، تحدثوا عن فظائع لا يمكن تخيلها.. ارتكبها الجنود الإسرائيليون، الذين أثبتت بعض الشهادات الإسرائيلية.. أن لديهم أوامر بالقتل بلا قيود، وأن محاسبتهم على أفعالهم غير واردة. وأخيراً وليس آخراً، نعيش – في هذه اللحظات – أقسى مراحل حرب التجويع والتعطيش الإسرائيلية على أهل غزة، وهي حرب بشعة.. رسمت آثارها – للأسف – على وجوه أطفال غزة، ونسائها ورجالها الصامدين.. وأجسادهم. وتكرر إسرائيل في الضفة، نفس نموذج ممارساتها في غزة، وإن على نطاق أضيق.
ورغم كل هذه الجرائم غير المسبوقة – حتى بالمعايير الإسرائيلية – فإن إسرائيل حتى الآن تفلت من العقاب، فأمر المحكمة الجنائية الدولية لم يُنَفَّذ حتى الآن، ومحكمة العدل الدولية ما زالت تحبو.. في بحث دعوى اتهام جنوب أفريقيا لإسرائيل، بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية في غزة، رغم كل الأهوال السابقة.
وليس صحيحاً أن القضية بالغة التعقيد قانونياً، وإنما هي كذلك سياسياً، لأن الاعتبارات السياسية – للأسف – تتداخل مع عمل المحكمة، فهي حتى.. لم تُصدر قراراً حاسماً بوقف إطلاق النار، رغم أنها فعلت ذلك بعد أسبوعين فحسب.. من دعوى أوكرانيا ضد روسيا، بعد عمليتها العسكرية في فبراير 2022. وبطبيعة الحال، فإن مجلس الأمن لم – ولن – يتخذ قراراً بذلك في ظل الحماية الأمريكية لإسرائيل.
بل إن الجمعية العامة – التي من المؤكد أن بمقدورها اتخاذ قرارات منصفة لفلسطين – لم تُحرك ساكناً حتى الآن.. بشأن الجرائم البشعة لإسرائيل، وبالذات في حرب التجويع والتعطيش والإبادة الحالية. وصحيح أن الأمانة العامة للأمم المتحدة – وعلى رأسها أمينها العام المحترم – تتخذ مواقف عادلة، إلا أنها ليست كافية، فأقصى محتوى لهذه المواقف.. هو التعبير عن القلق أو الانزعاج، والتنبيه للخطورة غير المسبوقة.. للأوضاع في غزة. وحتى المنظمات والأجهزة المعنية بهذه الجرائم – كاليونسكو ومنظمة الصحة العالمية – ينطبق عليها نفس التقييم، وثمة بارقة أمل في الاحتجاجات الشعبية ضد السياسة الإسرائيلية.. في أنحاء كثيرة من العالم، لكنها لم تصل حتى الآن لمستوى التأثير على القرارات السياسية للحكومات على نحو حاسم. ولا شك في أن السبب الأصيل – في إفلات إسرائيل من العقاب – هو الدعم الأمريكي المطلق لها منذ نشأتها، الذي بلغ آفاقاً غير مسبوقة في ولاية ترامب الأولى.
والآن – كما تابعنا جميعاً في الشهور الثلاثة الأخيرة، ورغم كل ما يُقال عن احتمال تغير هنا أو هناك في سياسة ترامب تجاه إسرائيل – فإن أي تطور فى تقديري.. لا بد وأن يأتي في إطار هذا الدعم المطلق، غير أن المسؤولية – بالتأكيد – ليست مسؤولية الولايات المتحدة.. ومن سار على نهجها فحسب، وإنما هي بالأساس مسؤولية يشارك في تحمُّلها فلسطينيون وعرب، لم ترقَ مواقفهم إلى المستوى المطلوب لمواجهة التحديات، التي تفرضها علينا السياسات الإسرائيلية، وهذه قصة أخرى.
نقلاً عن «الأهرام»

شارك هذه المقالة