Times of Egypt

الأهرام والمريدون

M.Adam
أحمد الجمال

أحمد الجمال

من المشروع أن يحتفي بـ «الأهرام» كل من انتسب إليه، وخاصة في مناسبة مرور قرن ونصف القرن على تأسيسه. ولا يقتصر الانتساب على علاقة العمل به فقط، ولا بمصلحة مادية من أية درجة أو نوع، لأن كثيرين جداً ارتبطوا به وانتسبوا لتوجهاته، والأكثر منهم بمراحل.. أولئك الذين كانوا وبقوا لا يصح صبح يومهم، إلا إذا كان في أيديهم.. مع اصطباحة الشاي والإفطار، أو كان تحت إبطهم.. وهم عائدون من عناء يوم عمل، ليكون متعتهم في هدأة القيلولة. ولذلك، فربما كانت العلاقة بين غير الذين عملوا به.. وبينه، أقرب لعلاقة روحية بين شيخ وبين مريدين، أو بين «صَيِّيت» منشد أو مطرب وبين السميعة، أي السامعين.. الذين قد يستبد بهم الوجد، إلى ما لا يوصف من متعة! 

وقبل أن أستطرد، فقد اخترت أن أتحدث عنه بصيغة المذكر.. متأثراً في ذلك بالأستاذ هيكل، الذي كان يقول «الجورنال»، ويقبل أن يطلق عليه «الجورنالجي». وربما كان مناسباً أن أبدأ بالرسالة – التي كنا في اتحاد طلاب جامعة عين شمس.. نكتبها، ويوقعها أمين اللجنة الثقافية أو رئيس الاتحاد – الموجهة لرئيس تحرير الأهرام أواخر الستينيات، نطلب فيها تزويدنا بكمية من إصدارات مركز الدراسات، وتأتينا المجلدات، وعلى رأسها محاضر الكنيست، وغيرها مما يتصل بالمهمة الأساسية – التي أوكلت للمركز.. برئاسة الأستاذ حاتم صادق، رحمة الله عليه – وكان اللقاء الأول بين الأستاذ هيكل وبين مجموعة «عين شمس». ودار بيننا حوار طويل.. ثم نشر ما دار في اللقاء على صفحات الأهرام بمقاله الأسبوعي «بصراحة». 

وبعدها كان اللقاء الثاني أواخر 1971؛ إذ كلفني أستاذي الجليل الدكتور أحمد عبدالرحيم مصطفى – أبرز أو الأبرز في أساتذة التاريخ الحديث والمعاصر – وكان قد اصطفاني لنكون أصدقاء، بأن أطلب موعداً مع الأستاذ هيكل لنلتقيه؛ الدكتور عبدالرحيم، والدكتور عبدالخالق لاشين، والعبد لله. والموضوع هو: لماذا تم منع الكتاب الذي يضم رسالة الدكتوراه الخاصة بلاشين.. عن سعد زغلول ودوره في الحياة السياسية؟ وضحك الأستاذ هيكل ونحن جلوس أمامه في مكتبه، وقال: إن إشاعة المنع متعمدة ومقصودة، حتى إذا نزل الكتاب للسوق ازداد الإقبال عليه. وفي الجلسة ذاتها طلب الأستاذ استدعاء حسن يوسف.. وجاء الرجل، فإذا حسن باشا يوسف.. رئيس الديوان الملكي السابق، وقال الأستاذ: يا حسن.. الدكتور عبدالرحيم سيؤسس في الأهرام مركز الدراسات التاريخية، وعليك أن تطلعه على كل الوثائق البريطانية التي لدينا، وأن تمده بكل ما هو حديث – قالها بالإنجليزية – من الدوريات العلمية التاريخية.. وانصرفنا وصدر الكتاب. 

وبطريقة أو أخرى، استبدل الدكتور محمد أنيس بالدكتور أحمد عبدالرحيم، ليؤسس وحدة التاريخ، وفي ذلك قصة أخرى.. تتصل بالعلاقات بين أساتذة الجامعات. وذات مرة كنت مع الأستاذ بالمصعد باتجاه الدور الرابع، وإذا به يمد طرف إصبعه ويمسح به حائط المصعد ليتأكد أنه خالٍ من الغبار.. حكايات قد تبدو عادية، ولكنني أزعم أنها – مع أخرى وقعت – تفصح عن جسور.. كان الأهرام يمدها مع مختلف مؤسسات الفكر والثقافة والبحث العلمي، بل ومع الذين لهم دور في الحراكات السياسية والاجتماعية في الحياة العامة المصرية؛ إذ أدرك الأستاذ هيكل – وهو في الأهرام، وبمتابعته للحركة الطلابية – خاصة بعد مظاهرات 1968، أن ثمة قوة ضغط وتأثير صاعدة.. في الواقع السياسي المصري، وكانت لقاءاته مع قيادات الحركة الطلابية لقاءات مهمة وعميقة، بل انه كان يبادر بالتوجيه أحيانا، والتحذير أحيانا أخرى، ومنها لقاءاته مع قيادات الحركة سنة 1972.

 وما زلت أذكر عندما طلبني عام 1973، وذهبت.. ليقول لي إن الرئيس السادات يريد أن يرانا – أي قيادات اتحاد طلاب عين شمس – وقال ضاحكا ومحذرا.. «انه يعتبركم أكثر التجمعات انحطاطا.. وأبلغني أنكم تقبضون بالليبي»! وقال بالعامية على لسان السادات: «الولاد بتوعك بتوع عين شمس بيقبضوا بالليبي يا محمد»! وسألته بماذا ينصحنا؟! فأجاب «اذهبوا ولا تجرحوه، وتوقفوا عند «الخربشة»، لأنه إذا جرح فسيفتك بكم»! 

وكان لحكاية «الليبي» أصل، هو أن أبو بكر يونس – وزير دفاع ليبيا – جاء لمؤتمر في الجامعة العربية عام 1972 وذهب 3 من طلاب عين شمس (أنا منهم) للقائه، وقلنا ان السادات يحاصر الناصريين ويضرب ثورة يوليو.. فما كان من الأخ أبوبكر إلا أن طلب لقاء السادات صباح اليوم التالي، وأخذ يعاتبه حول ما قلناه.. هكذا روى لي الأستاذ هيكل، فاعتبرنا السادات عملاء لليبيا! 

فذهبنا لبرج العرب يوم الخميس 20 سبتمبر 1973، مع الدكتور كمال أبو المجد، واستقبلنا الرئيس السادات، ومعه ممدوح سالم والدكتور إسماعيل غانم.

 وعندما جاء دوري في الحديث، تكلمت طويلاً.. وبدأت بسؤال للرئيس: هل سيادتك قلت اننا عملاء لليبيا؟! فأجاب بالنفي القاطع: «أنا يا ابني عمري ما اتهم مصريا بالخيانة لبلده، وإلا لم أكن لأدعوكم للقائي»، واستطال كلامي حتى أوقفني.. لأتيح الفرصة لزملائي. كان الأهرام يسعى – عبر الأستاذ – ليكون تأثيره غير مقتصر على المهمة الصحفية والإعلامية والثقافية، ولكن يتعداها ليكون مؤثراً مباشراً في الحياة السياسية، عبر ما يمكن أن نسميه «جماعات الضغط» آنذاك، وفي مقدمتها الحركة الطلابية.. ولم يكن الأستاذ هيكل وحده في هذا المضمار، بل كان معه فريق مجلة الطليعة، وعلى رأسهم الأستاذ لطفي الخولي؛ إذ كانت الطليعة – التي كانت تصدر عن مؤسسة الأهرام – منبرا مهما.. بل وخطيرا، تطل منه قوى اليسار الأممي والقومي وبعض الليبراليين، وتتفاعل مع المشهد السياسي، وتؤثر فيه وتحرك بعض لاعبيه. 

وعليه، فلم يكن الأهرام في مرحلة ما.. مجرد جورنال يحتل صدارة الصدارة، وإنما – مع ذلك – كان مؤثرا مباشرا في الحراك السياسي المصري، وربما تكون لي وقفة أخرى عن الاشتباك بين «الأهرام» وبين «الجمهورية».. في حوار سياسي ملتهب، وتلك لقطة لا يتوقف الكثيرون أمامها.. باعتبارها جزءا من الصراع السياسي عقب رحيل جمال عبدالناصر.

نقلاً عن «الأهرام»

شارك هذه المقالة