وجيه وهبة
حديث شهر «يوليو».. بقيظه ولهيبه، هو حديث الثورات بامتياز. يشهد على ذلك كم الثورات والانتفاضات والانقلابات التي اندلعت غرباً وشرقاً.. منذ الثورة الفرنسية إلى يومنا هذا.
ومنذ بضعة أيام، احتفلت «مصر» كالمعتاد.. بعيد «ثورة 23 يوليو 1952»، تلك الثورة التي أراد لها أصحابها.. أن تجب كل ما قبلها من ثورات، على مدار تاريخ نضال الشعب المصري، وفي القلب منها «ثورة 1919».. تلك الثورة العظيمة المغبونة، التي فتحت الطريق أمام التحرر والاستقلال والديمقراطية، وهي ثورة لا نحتفل بها، ونمر عليها وعلى قادتها العظام – بكل اختلافاتهم وخلافاتهم – مرور الكرام، بينما نحتفل كل عام بثورة – رغم مآثرها – فتحت طريقاً طويلاً للاستبداد والأوليجاركية.. باسم الديمقراطية!!
ولنعُد إلى كتاب د. «لويس عوض».. «أقنعة الناصرية السبعة» (1975)، لنطل منه على «ثورة 23 يوليو»، وقضايا الديمقراطية، والحرية، والعدل.. وغير ذلك، من خلال عبارات وفقرات دالة من الكتاب، (على الرغم مما نرى فيه من بعض التناقضات).
- في معرض حديثه عن «تأميم الاقتصاد المصري (في الفترة 1952 /1960) يقول د. لويس: »وقد خالط تأميم المصالح الأجنبية في مصر.. بعض أعمال العسف والنهب والسلب على المستوى الفردي، الذي تميز به الكثير من قرارات الحراسات والمصادرات، لما يندى له الجبين الوطني الشريف، لأنه لا يليق بأمة متحضرة. وإنما يستوجب أن نفتح دفاتره….، لنعرف كيف آل «المال العام إلى الجيوب الخاصة…. وقد كانت هناك حالات.. من ترحيل بعض الأجانب المحليين، وبعض اليهود المصريين.. دون تمييز بين المحسن والمسيء، خلال 24 ساعة، لمجرد استيلاء بعض الأفراد على شققهم الرخيصة في أرقى أحياء القاهرة، ولنهب محتويات سكنهم.. نهباً فردياً، تحت مظلة سلطة الدولة«.
- والغريب أنه – وبعد كل هذه المخازي – التي يعددها «لويس عوض»، نجده يقول: «ولكن كل هذه المآسي لا ينبغي أن تعمينا.. عن القيمة الوطنية والقومية في تأميم المصالح الأجنبية الكبرى.. التي كانت، وكان تمصيرها – في تقديري – إنجازاً إيجابياً لثورة عبدالناصر ونظامه، وخطوة مؤكدة في سعي مصر نحو تحقيق استقلالها الاقتصادي»!!! ولنا أن نتساءل: أي «قيمة وطنية».. تلك التي تأتي، ويأتي من ورائها «السلب» و«النهب»، على حد وصف «د. لويس» هو نفسه، للأموال العامة والخاصة؟! وإلى أي مدى تحقق الاستقلال الاقتصادي؟
- ويواصل »لويس عوض» – مبيناً أن الخطأ الأكبر لنظام عبدالناصر خلال اندفاعه إلى تصفية الوجود الأجنبي، مصالح وأشخاص – كان هو «المغالاة في الإيمان باكتفاء مصر الذاتي في الثقافة والعلم والخبرات… إلخ».. وبدلاً من تعويض النقص في الخبرات الناشئ عن طرد الأجانب، بإيفاد آلاف المصريين إلى أوروبا وأمريكا ومختلف أرجاء العالم، على غرار ما فعله محمد علي في زمانه.. حطم عبد الناصر أكثر جسورنا العلمية والثقافية مع العالم الخارجي، وأقام أسواراً عازلة بيننا وبين العقل والوجدان العالمي؛ سواء بحظر الدراسة في الخارج.. إلا في أضيق الحدود، أو بإهمال تدريس اللغات الأجنبية، ولكن الأحداث والكوارث القومية أيقظتنا – لسوء الحظ – إيقاظاً.. إلى تلافي ما كنا نسير فيه من خطأ الانغلاق على النفس.
دمار ونسف.. وخير كتير!!
- وفي فصل بعنوان «تصدير الثورة»، يقول «لويس عوض»: «أنا لست ممن ينظرون إلى ثورة عبد الناصر ونظامه.. نظرة رومانسية، فيقولون إنهما لم يفعلا إلا خيراً، بل أنا ممن يعتقدون أنهما – مع ما جاءا به من خير كثير – قد دمَّرا بعض أسس المجتمع المصري الراقية، التي بناها المصريون خلال المائتي سنة الأخيرة.. نتيجة احتكاكهم المباشر بالحضارة الأوروبية: كمبدأ القومية المصرية، ومبدأ الحق الطبيعي. وكالحقوق والحريات الديمقراطية: فصل الدين عن الدولة، وفصل السلطات، وسيادة القانون، وسيادة الأمة على الحكومة، وحرية الاجتماع والتفكير والتعبير والعمل، وحرية التنظيم والتمثيل. والتوكيل السياسي… إلخ… وهكذا زعزعت الناصرية – بعد خروج عبدالناصر منتصراً في حرب السويس، وبروزه كزعيم للعالم العربي – إيمان المصريين بهويتهم المصرية وبشخصيتهم المصرية، ومحت اسم مصر (بعد الوحدة مع سوريا)، ودعت المصريين إلى فقدان أنفسهم.. في كيان سياسي أكبر؛ هو كيان الأمة العربية الممتدة من الخليج إلى المحيط.. كذلك نسفت الناصرية أكثر الحقوق والحريات الديمقراطية«.
- ويحدثنا »لويس عوض» عن «فلسفة القومية العربية»؛ تلك التي أصبحت ديناً رسمياً لدولة «عبد الناصر» والمصدر الرئيسي للسياسة والتشريع والقيم الفكرية، وأُلزم الناس بها وبمقولاتها، »كما لو كانت من مقولات الوحي الذي لا يناقش». «ولما فشلت تجربة الوحدة ابتكر المفسرون والأئمة – تخريجاً تلفيقياً جديداً – هو دعوة الاشتراكية العربية.. التي حلَّت محلَّ دعوة القومية العربية«.
- ويأخذ »لويس عوض» على «الثورة الناصرية»، أنها «اقتلعت حق الأفراد والجماعات في التفكير والعمل السياسي.. إلا من سار مسيرتها بالولاء الشخصي». وكذلك إلغاؤها (الثورة) للفرق بين الدولة والحكومة، وبأنها «جردت الشعب من حق توكيله لممثليه السياسيين والنيابيين».
- أما عن حرية التعبير، فيقول عنها د. «لويس» إنها قد أضحت بلا معنى.. بعد تأميم الصحافة، وتحريم الأحزاب وتجريمها. وتجسد السلطات الثلاث التنفيذية والتشريعية والقضائية، بالإضافة للسلطة الرابعة (الصحافة).. في الزعيم، الذي تجسدت فيه إرادة الدولة.
- بعد كل هذا «الدمار» و«نسف الحقوق والحريات» – الذي ذكره د. «لويس عوض» – لنا أن نتساءل أيضاً: تُرى ما جدوى، وماذا يتبقى من هذا «الخير الكثير» الذي – كما يقول د. لويس – أتى به «عبد الناصر» وثورته؟!
نقلاً عن «المصري اليوم«