وجيه وهبة
مضى نصف قرن بالتمام والكمال.. على صدور كتاب – يُعد من أهم الكتب التي تناولت فترة حكم جمال عبدالناصر ونظامه، بقدر ملحوظ من العقلانية والموضوعية – الكتاب هو «أقنعة الناصرية السبعة». أما المؤلف فهو أستاذ الأدب الإنجليزي، الكاتب لويس عوض (1915 – 1990)، وهو واحد من أهم المبرزين في المجالات الفكرية والثقافية في مصر.. في النصف الثاني من القرن العشرين.
بعد عام قضاه الدكتور لويس عوض في التدريس بإحدى جامعات الولايات المتحدة، عاد إلى مصر، ليجد أن أصداء كتاب توفيق الحكيم «عودة الوعي»، ما زالت تتردد في صورة العديد من الكتب والمقالات؛ منها ما يؤيد الحكيم بشدة.. في انتقاده اللاذع لجمال عبدالناصر وعهده، ومنها ما يعارضه بحدة.. دفاعاً عن ناصر ونظامه.
وإزاء هذا التشنج من الجانبين، كتب لويس عوض كتابه أقنعة الناصرية السبعة.. متوخياً الموضوعية، والحذر من الأهواء الذاتية، لأن – على حد قوله – «المصريون.. يمينهم ويسارهم ووسطهم، لن يبلغوا النضج السياسي، حتى يكفوا عن إقامة الأذكار في مدح الناصرية، وعن إقامة الزارات في هجاء الناصرية؛ فالتاريخ لا يكتب.. بوحي الشهوات والأحقاد».
أشار لويس عوض.. على سبيل المثال، إلى أنه – هو نفسه -قد سقط في فخ الذاتية.. في الحكم على الأمور، وذلك حين عارض مشروع السد العالي.. لأسباب رومانتيكية، تتعلق بتأثيره السلبي على ترسيب طمي النيل. وذلك قبل أن يتبين له – بمرور الأيام – الفوائد الجمة لهذا المشروع. وفي مستهل كتابه، يعبر لويس عوض عن اتفاقه مع وصف الشاعر العراقي الكبير الجواهري لعبدالناصر بأنه «العظيم المجد والأخطاء».
ويؤكد أنه – فيما يكتبه عنه وعن نظامه – يتبع قواعد أربع، نوجز منها الآتي:
أولاً: أن معاصري ناصر، لا يصلحون لكتابة تاريخ ناصر وعهده، أو محاكمته؛ لأن المعاصرين هم – بدرجات متفاوتة – أطراف في فترة حكمه، وفي نظامه. وكل ما في الأمر، أن كلاً منهم.. يستطيع أن يدلي بشهادته من موقعه، وزاوية رؤيته للأحداث. ثم يذكر لويس عوض القول المأثور الموجز.. عن مسألة المعاصرة «أننا لا نرى الغابة.. لقربنا من الأشجار».
ولمزيد من الإيضاح، يذكر لنا كيف كانت صورة محمد علي عند الجبرتي غير مضيئة، لأنه أمَّم أوقاف علماء الدين.. «بينما نحن نرى الآن في محمد علي.. مؤسس مصر الحديثة، الذي بنى جيشها الوطني، وحرر إرادتها من التبعية التركية، وأنشأ صناعتها ومعاهد العلم والتكنولوجيا فيها، ونظم زراعتها ورقاها، وجعل منها أقوى دولة في الشرق الأوسط، وبنى كثيراً من جسورها الحضارية مع أوروبا».
ويواصل لويس عوض، فيضرب مثلاً آخر بعصر الخديوي إسماعيل، فيقول: «ومن عاش في عصر إسماعيل، لم ير فيه إلا سفيهاً.. استدان نحو مائة مليون جنيه؛ لينفقها على ملذاته واهتماماته الأرستقراطية. ولكننا نعرف الآن أنه أنفق أكثر هذه الأموال في حفر قناة السويس، وفي حفر الترع، وتوسيع الرقعة الزراعية بمساحة مليون فدان، وفي ربط مصر بالسكك الحديدية والتلغراف، وفي بناء جيش وطني.. قوامه نحو مائة ألف مقاتل (بعد 18,000 مقاتل)، بنى به إمبراطورية أفريقية-نيلية تضارع إمبراطورية محمد علي العربية؛ فرفع العلم المصري على أوغندا، وألغى تجارة الرقيق.. حيثما سار جنود مصر. كذلك نعرف أنه تسلم البلاد، وليس فيها إلا نحو 115 مدرسة، وتركها – بعد 16 سنة – وفيها 4500 مدرسة، بعضها للبنات. ولم تكن فيها صحيفة واحدة، فعرف عهده قرابة 30 صحيفة ومجلة. ولم يكن فيها نظام قانوني واضح، فأدخل فيها أحدث قانون مدني وجنائي وإداري.. كان معروفاً في عصره (قانون نابليون). ولم تكن في مصر هيئة تشريعية، فأنشأ إسماعيل فيها أول برلمان مصري. بدأ استشارياً صورياً في 1866، ثم نضج…..».
ثانياً: «إننا نحن معاصري ناصر، كلنا مسؤولون معه عن أمجاده، وعن أخطائه جميعاً؛ مسؤولون.. كلٌّ بحسب موقعه وعلمه. وهو – بطبيعة الحال – كان المسؤول الأول، والمسؤول الأكبر….».
ثالثاً: «إن مسؤولية المواطنين عن نظام من النظم… ترتبط بدرجة حرية الاختيار، في القول والفعل».. «ومسؤولية الكتاب والفنانين – حيث لا رقابة – أكبر من مسؤوليتهم بعد فرض الرقابة. ومسؤولية الكتاب والفنانين – قبل تأميم الصحافة – أكبر من مسؤوليتهم.. بعد تأميمها، وإذا كنا نرى بعض الخطباء ينادون اليوم – حيث لا قهر ولا خوف، باتفاق الناس – بانتخاب الرئيس السادات رئيساً للجمهورية مدى الحياة، على غير ما رسم الدستور، (وهو شيء غير تجديد انتخابه.. الذي أرجو أن يتم ليتم السادات ما قد بدأ من سياسة خذ وطالب)، فمسؤوليتهم أكبر من مسؤولية نظرائهم.. من المتزيدين، الذين كانوا ينادون بانتخاب الرئيس عبدالناصر رئيساً للجمهورية مدى الحياة.. في ظل القهر، الذي حدثنا عنه توفيق الحكيم…».
رابعاً: «على الكاتب – قبل أي مواطن آخر – أن يحاسب ولي الأمر أثناء حياته، وليس بعد وفاته.. ما استطاع إلى ذلك سبيلاً: حتى يصبح الحساب نقاشاً.. يمكن أن تنصلح به الأمور، فليس لحساب الموتى جدوى غير حكم التاريخ….».
ويستدرك لويس عوض: «وحاشا لله، أن أقصد توفيق الحكيم. ثم بين كيف أن الحكيم قد عبر عن مخاوفه، وناقش حكم ناصر في حياته.. وهو يعتلي قمة السلطة، وذلك عبر إبداعه، خاصة في مسرحيتي: السلطان الحائر، وبنك القلق». أ. هـ.
ولحديث الأقنعة السبعة بقية، فمن المهم والمفيد متابعته؛ سواء اتفقنا هنا أو اختلفنا هناك، مع هذا المفكر الكبير.
نقلاً عن «المصري اليوم»