عادل نعمان
طبيعة الحياة متجددة ومتغيرة، ويقتضي أن تكون قواعدها مرنة ومطاوعة، وأحكامها وقوانينها.. تتوافق مع ما يستجد على الناس من تطور وتحضر، يفرض عليهم فرضاً ما لهم فيه من قرار، وتظل الأحكام تساير كل العصور وإلا جمدت مكانها وتحايل وتماكر الناس عليها.
كنا في المقال السابق.. قد استعرضنا «حد السرقة» وكيف كان الحكم يعامل في زمن النبوة والصحابة.. معاملة القانون المدني الوضعي، ليس ثابتاً أو جامداً، بل أصبح وأمسى حسب الأحوال، وطُبّق ونُفّذ على قدر ما تفرضه سياسة الحكم والحاكم، فقد رأى الرسول عدم تنفيذ الحكم على من ينتهب (سرقة) أموال الغزوات (الغلول).. حتى لا تهن عزيمة المقاتلين، ونفذ الحكم في سرقة رداء (صفوان) الرديء المهلهل.. حين تفشت ظاهرة السرقة، وعفا عن المخزومية التي سرقت لمكانتها عند العرب.. لاستمالتهم واستقطابهم.
ولتعلم عزيزي.. أن العدل المطلق ليس واقعاً في حياة الناس، بل هو العدل الممكن عند الأديان والقانون الوضعي على السواء. والآن إلى أحكام الرق والعبودية: ولقد عرف العرب الرق – كما عرفه غيرهم من الأمم المجاورة – وقد كان لضرورة اقتصادية، ولم يكن هذا الأمر مخجلاً أو معيباً، وكان الغزو أهم مصادره، والمهزوم يُسترق، وتسري عليه أحكام العبيد، وهناك مصدر آخر.. هو شراء العبيد من أسواق النخاسة، وقد أباحه الإسلام كما أباحته كل الأديان، التي رأت من الحكمة.. ألا تتصادم مع الأعراف والتقاليد القائمة، والضاربة في أعماق التاريخ، والمتوافقة ومصالح الناس.
وقد كان العرب يواجهون مشكلة هروب العبيد من الرق، وفرارهم من تحت أيدي من استرقوهم، وكانت عقوبة العبد الآبق (الهارب) إما قطع يده كحكم السارق، أو إهدار دمه، أو حبسه بلا طعام.. حتى لا يفكر في تكرار فعلته. ولقد كان الإسلام مواكباً ومرافقاً لهذا كله، حتى تظل «مؤسسة الرق» قائمة ومتوافقة معه، بل ويؤصل للعقوبات القائمة شرعاً، ويرسي ويثبت أركانها بأحاديث على النحو الآتي: (أيما عبد أبق «هرب» من مواليه، فقد كفر حتى يرجع إليهم) وحديث (أيما عبد أبق فقد برئت منه الذمة)، أي أحل دمه، وحديث (إذا أبق العبد لم تقبل له صلاة) وحديث (أيما عبد أبق إلى أرض الشرك فقد حل دمه). ولقد حاول الإسلام في المقابل أن يخفف من حدة البغض الذي يحمله العبيد للسادة.. بآيات قرآنية تحث على حسن معاملتهم، وبحديث «إذا أدى العبد حق الله وحق مواليه كان له أجران».
وإلى هنا فقد توافقت مصالح السادة.. مع الوافد الجديد وبين السادة والعبيد، وإذا كان الإسلام قد فتح الباب للعتق، فإن العتق كان معروفاً قبل الإسلام أيضاً.. تقرباً للآلهة، ولقد فتحت الغزوات مصادر للرق.. فاقت العتق بمراحل، فقد أغلق باباً وفتح مقابله أبواباً.
وكان الرسول يتعامل مع العبيد.. كما يتعامل أهل قبيلته، فتملك من العبيد والإماء كما تملك غيره، أما عن أعدادهم فالكتب اختلفت حول هذا، المهم أن النبي تعامل مع مؤسسة الرق باعتراف وإقرار، بل تذكر الكتب أن أسرى وسبايا بني قريظة.. قد تم بيعهم في أسواق النخاسة بالشام، وبالمقابل تم شراء أسلحة ومعدات للحروب والغزوات.
ولنا في الرق مثال، نرى فيه إدارة الأزمات تحكمها سياسة التوازنات والمواءمات: فقد حدث تمرد وهروب لعدد كبير من العبيد والأرقاء في العهد النبوي، نتيجة إحساسهم بالغبن والظلم الواقع عليهم من أسيادهم، وفر وهرب منهم الكثير إلى (كنانة ومزينة)، وشكلوا جماعات سلب ونهب في جبل تهامة، يسطون ويغيرون منه على القوافل والقبائل، حتى أصبح وجودهم خطراً على الدولة الجديدة، فما حاربهم الرسول ولا طالب بإقامة حد المفسدين في الأرض «الحرابة»، ولا اعتبرهم آبقين أُحِلاءَ الدم.
لكن فرضت السياسة قواعدها على الموقف برمته، واستجاب النبي لها، وأرخى بظلاله على الجميع أسياداً وعبيداً، وفرض عليهم المصالحة والمهادنة، فحررهم الرسول من العتق، وأطلق حريتهم من أسيادهم.. حتى يأمن شرهم، ويحمي مؤسسة الرق من الانهيار، وجاء في كتابه (أن هؤلاء العتقاء «أعتقهم الرسول» إن أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فعبدهم حر، وما كان فيهم من دم أصابوه، أو مال أخذوه.. فهو لهم، سامحهم فيما نهبوه ومن قتلوه، وما كان لهم من دين في الناس رُدّ إليهم، ولا ظلم عليهم ولا عدوان).
هكذا تصنع السياسة في الأحكام، وتميل لها ميلاً شديداً. ولو خرج في دولة حديثة مجموعة من المطاريد، واحتلوا جبلاً من الجبال، وأغاروا منه على الناس، لفزعت الدولة.. ودكت هذا الجبل دكاً على رأس من فيه، حتى تعود للدولة هيبتها، فكانت أحكام القرآن أكثر نعومة ومدنية.. من أحكام الدولة المدنية ذاتها.
فإذا كانت أحكام الرق والعبيد – التي استحوذت على الكثير من آيات الله – قد بانت ومالت مع أحوال السياسة ومنطق الحكم، حتى ألغيت وعطلت كل أحكامه.. نتيجة الثورات التحررية دون نسخ إلهي، فماذا لو انسحب هذا الأمر إلى باقي الأحكام أو بعضها، وحل محلها قانون وضعي يرتضيه الناس ويقبلونه، وينتخبونه برضا واختيار، دون تحايل أو مراوغة.
أليست حقاً تفرضه الظروف والمصالح؟
)الدولة المدنية هي الحل(
نقلاً عن «المصري اليوم»