سمير مرقص
أحد أهم المحددات.. التي يتم بها تقييم الرئيس الأمريكي تاريخياً، هو ما يِعرف في السياسة الأمريكية بـ«مبدأ الرئيس الأمريكي للأمن القومي»؛ الذي يتضمن رؤيته للإدارة الاقتصادية في الداخل الأمريكي وخارجه، وما يترتب عليها من بلورة ما يُعرف بعقيدة Doctrine الرئيس المنتخب.. الحاكمة والموجهة للسياسة الخارجية الأمريكية، وكيف يُسيِّر العلاقات الدولية – التي تربط الولايات المتحدة الأمريكية بدول العالم – في شتى القارات.. خلال الفترة الرئاسية لكل رئيس أمريكي.
ويُرجَع للرئيس الأمريكي الخامس في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية «جيمس مونرو» (1758-1831) – الذي انتُخب لفترتين رئاسيتين في 1816 و1820 – الفضل في صياغة أول مبدأ للأمن القومي الأمريكي.. الذي عُرف بـ«مبدأ مونرو»، ومن ثم أصبح تقليداً على كل رئيس لاحق.. أن يتخذ لرئاسته المبدأ الذي يتناسب والسياق السياسي المواكب أمريكياً وعالمياً. حتى أصبح هذا التقليد ملزماً – بحكم القانون الذي عمل على إصداره الرئيس هاري ترومان سنة 1947 – ومن ثم أصبح على كل رئيس أمريكي أن يصدر مبدأ يرتبط باسمه ويحكم سياساته، في الأشهر الأولى من تنصيبه، الذي يجري في 20 يناير، من العام الذي يلي إجراء الانتخابات (التي تُجرى في 4 نوفمبر). وهكذا بات العرف قانونا، يعتبر وثيقة للأمن القومي؛ تعكس مدى تطابق ما أعلنه الرئيس في حملته الانتخابية.. من وعود تتعلق باستراتيجيته المزمع تطبيقها، وما يتم تنفيذه منها، ونسبته، وفاعليته، ومصداقيته عملياً.
وتشير القراءة التاريخية، إلى أن رؤساء الولايات المتحدة الأمريكية – منذ «ترومان» – قد حرصوا على إعلان «المبدأ» الذي سيتبعونه.. فيما يتعلق بالأمن القومي الأمريكي خلال الأشهر الأولى من بدء فترة رئاستهم. بيد أن ترامب كسر هذا التقليد القانوني في فترة رئاسته الأولى، إذ تأخر ما يقرب من السنة لإعلان رؤيته للأمن القومي. وها هو بعد مرور أربعة أشهر على تنصيبه لفترة رئاسة ثانية، لم يعلن بعد – توثيقاً – عقيدته للأمن القومي.
في هذا الإطار، ترصد لنا الدراسة الافتتاحية لدورية فورين أفيرز (عدد مايو/يونيو 2025) المعنونة: صعود وسقوط تنافس القوى العظمى؛ الذي حاولت فيه أستاذة العلوم السياسية «ستايسي جودارد» فهم رؤية ترامب للأمن القومي.. في فترتي رئاسته الأولى والثانية؛ وذلك من خلال دراسة مقارنة بين مجالات حركته.. للتأثير في المنظومة العالمية في كل فترة رئاسية من الفترتين.
بداية، تؤصل الباحثة للمسار التاريخي للأمن القومي.. الذي حكم ممارسات رؤساء الولايات المتحدة الأمريكية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وإبان الحرب الباردة، بأنهم كانوا يعملون دوماً – بدرجة أو أخرى – على دمج القوى/الدول الأخرى فى المنظومة الدولية تحت قيادتها. ولكن مع انطلاقة عهد ترامب الأول، سادت روح «تنافسية».. هدفها بقاء أمريكا متقدمة على منافسيها، وتحديداً: الصين وروسيا. وتستعيد الباحثة الوثيقة «الترامبية» للأمن القومي – التي صدرت متأخرة كثيراً في فترة رئاسته الأولى – حيث ورد فيها نصاً أن «خصوم واشنطن يتصارعون حول ما نتميز به من مزايا جيوسياسية، ويحاولون تغيير النظام الدولي لخدمة مصالحهم». انطلاقاً من هذا المبدأ تحرك «ترامب» يخلخل النظام الدولي.. تحت شعار «أمريكا أولاً». ثم جاء «بايدن» محاولاً بناء إجماع دولي.. ضد ما أطلق عليه «القوى الاستبدادية التي تتبنى سياسات خارجية رجعية»، من خلال «التمايز (في المنافسة) على الصين، والسيطرة على العدوانية الروسية».
صحيح أنه لم تحظ محاولة «بايدن» بالإجماع اللازم، لكنها – في الحد الأدنى – لم تؤثر سلبياً على بنية النظام الدولي. وتوقع المراقبون مع عودة ترامب الثانية، أن ترتفع وتيرة الصراع بين الولايات المتحدة الأمريكية وبين منافسيها الصاعدين. إلا أن ترامب – وبالرغم من إسراعه بتنفيذ التعريفات الجمركية المبالغ فيها، والتي كان لها تداعيات على الداخل الأمريكي – فإنه في نفس الوقت.. سعى إلى عقد صفقات منفردة مع روسيا، كما أشار إلى رغبته في التوصل إلى تسوية شاملة مع الرئيس الصيني.
وعن السلوك الترامبي في تعاطيه مع الصين وروسيا، يرصد كثير من المراقبين كيف أن هذا السلوك قد عبَّر عن قفز أمريكي.. على الشراكة الأمريكية-الأوروبية (الغربية الأطلسية) التاريخية. مما دفع هؤلاء المراقبين إلى وصف التحرك الترامبي «بالتواطؤ» Collusion؛ من خلال الصفقات. وهو ما أشرنا له في أكثر من مقام مبكراً، في مقالاتنا التي تتبعنا فيها أداءات ترامب، ووصفناها بـ«الزمن الترامبي».. منذ 2017، وكيف أن «الذهنية الصفقاتية» The Deal Mentality تحكم تسييره لشؤون الأمن القومي الأمريكي.
وعن هذا التسيير – الذي يمكن أن نطلق عليه «الانقلابي».. على الكثير من تقاليد مبادئ الأمن القومي التي اتبعها الرؤساء الأمريكيون الذين سبقوا ترامب – يقول المنظر الروسي الذي وصفناه «بعقل بوتين»، ألكسندر دوجين – في كتابه الذي عرضنا له حين صدوره مطلع هذا العام: «ثورة ترامب: نظام جديد للقوى العظمى» – يقول دوجين إن ما يأخذه ترامب من قرارات هو بمثابة تسونامي أيديولوجي وجيوسياسي Ideological & Geopolitical Tsunami؛ وحوله تقول «ستايسي جودارد» – ووفقاً للتاريخ – إن: «مقاربة ترامب الجديدة التواطئية الصفقاتية، مهددة بخاتمة غير طيبة». إذ إن «تسونامي» ترامب الراهن يندفع دون غطاء – بدرجة أو أخرى – من القوى التاريخية الحليفة لأمريكا، إضافة لعدم الثقة الذي بات واضحاً بين المنظمات الدولية – كمنظمة الصحة العالمية، والمحكمة الجنائية الدولية، ومنظمة التجارة العالمية – وبين أمريكا. ولا ننسى في هذا المقام، التنصل الأمريكي الترامبي تحديداً من الالتزامات حيال اتفاقات مواجهة التدهور المناخي والانهيار البيئي، والحد من انتشار الأسلحة النووية.
الخلاصة، أنه من الصعب تصوُّر نجاح ترامب في تطبيق استراتيجيته للأمن القومي.. قائمة على عقد الصفقات المتبادلة، التي تعتمد الترهيب والابتزاز والرشاوى.. لحث الشركاء (القوى/الدول الأخرى) على التواطؤ. وفي ضوء الخبرة التاريخية، لم تنجح هكذا استراتيجية.. لأنها لا تحسم الصراعات، أو تخفف من حدتها. والسؤال الذي تطرحه الباحثة – وغيرها من الاستراتيجيين – هو: ما الضمان في عدم انقلاب ترامب على الحالة التواطئية؟ وهل يمكن للصين وروسيا القبول بها طويلاً؟ نتابع…
نقلاً عن «الأهرام»