أحمد الجمال
الاحتكام للدستور والقانون هو الأساس الوحيد.. الذي يستند إليه المجتمع، ويتخذه مرجعية لتنظيم علاقاته، وضبط أوضاعه، ولتحقيق المواطنة.
والاستناد إلى ما جاء في الكتب المقدسة.. لتكوين المرجعية القيمية والضميرية الإنسانية أمر محمود، لأنها تنزلت أصلاً.. لخير البشرية وإعمار الكون، ولذلك لا أجد غضاضة في الرجوع الدوري الواعي للإنجيل وللقرآن، أفعله ولا ألزم به أحداً.
واتصالاً بموضوع حتمية الانشغال بالبيت المصري؛ الذي يمتد أمنه القومي أي الوطني من جبال طوروس ومنابع دجلة والفرات شمالاً وشرقاً، إلى باب المندب والقرن الأفريقي وهضبة التيبستي جنوباً وغرباً.. فإن عملية الإصلاح والنهوض مسؤولية جسيمة، لا يقتصر التصدي لإتمامها على عاتق نظام الحكم، وخاصة رئيس الدولة والأجهزة المعاونة له، وأيضاً الحكومة، ولكنها تتسع لتشمل كل مواطن ومواطنة، كلاً في مجاله، وكلاً وفق طاقته وتكوينه الثقافي.
وهنا، وبعيداً عن تنميط الناس في قوالب جاهزة متشابهة، فإن التجانس الاجتماعي والسلم الأهلي – إذا جاز الاصطلاح – يعتمدان على وجود تجانس ثقافي؛ تختلف درجات ثقافة الأفراد فيه، ولكنها مستقاة من منابع مشتركة صافية، منها أولاً: مضمون وروح النصوص المقدسة، ومقاصدها المتصلة بخير البشرية، وإعمار الكون. ومنها ثانياً: التراث الشعبي الذي يضم آداباً وفنوناً وحكماً وأمثالاً ومسلكيات وأقوالاً للفرح وللحزن وغير ذلك.
وفي أوقات الاضمحلال – التي تنتج عن ضعف أو انهيار جهاز المناعة الوطني الجماعي – تكون الاشتباكات المضنية والمرهقة؛ بتفاهتها واصطناعها، وغياب تدبر عواقبها الوخيمة على الجميع. والكارثة أن يتحول الاستناد للنصوص المقدسة ومضامينها ومقاصدها الخيِّرة، إلى مصدر للشرور والتصارع والاقتتال، الذي قد يصل لإفناء المجتمع وتدميره بدلاً عن إحيائه وإعماره.
وقد شاهدنا وعايشنا حالات فادحة.. في محيطنا الإقليمي، أو في مساحات من جغرافيا أمننا القومي، وشاهدناها أيضاً بين ظهرانينا في مجتمعنا. ولولا يقظة الأمة ولطف الله، لحدث لنا – وفينا – ما حدث في تلك المجتمعات المجاورة.
ثم إن من أبرز مظاهر التردي.. المبتعد بصاحبه عن أداء دوره المنتظر في عملية الإصلاح والنهوض، يبرز الانشغال الشديد بالغير أو الآخر، ليس للتواصل والتعاون والتفاهم والتجانس معه، ولكن لانتقاده والتهجم عليه، وتدمير أي مشاعر إيجابية خلاقة لديه.
ولعلنا – وبكل أسى وحسرة وغضب – نتابع المحاولات الخبيثة الشريرة.. للعب على الوتر الطائفي الديني والمذهبي في مصر، وكيف أن البعض ممن يعتبرون شخصيات عامة، انزلقوا لذلك المستنقع، وتعاملوا – بحمق وجهل – مع رموز وطنية ومع مواطنين مصريين محترمين.
وهنا بالتحديد، أعود دوماً إلى الإنجيل الطاهر.. لأستعيد القيم العليا النبيلة نادرة المثال، التي احتوتها الموعظة على الجبل، وهي في إصحاحات الأناجيل الأربعة، ومنها إنجيل متى؛ حيث نجد البداية في الإصحاح الخامس، ونقرأ: «ولما رأى – أي السيد المسيح – الجموع صعد إلى الجبل.. فلما جلس تقدَّم إليه تلاميذه، ففتح فاه وعلَّمهم قائلاً: طوبى للمساكين بالروح، لأن لهم ملكوت السموات.. طوبى للحزانى، لأنهم يتعزون.. طوبى للودعاء، لأنهم يرثون الأرض.. طوبى للجياع والعطاش إلى البر..».
وتستمر الموعظة – بالغة العظمة الروحية والأخلاقية والإنسانية – طيلة الإصحاحات الخامس والسادس والسابع، ولأن سطوري اتجهت للعينة البشرية.. التي تحترف المساس بالآخر الوطني والإساءة إليه، وتحترف تصيُّد الأخطاء، فإن لم تجدها.. فإنها تخترعها، وتنفخ في دخانها الخانق الأسود، لتختنق الأمة كلها.. بما هو كاذب مصطنع مفبرك؛ فإنني أتوقف طويلاً أمام آيات الإصحاح السابع.. التي نصها: «لا تُدينوا لكي لا تدانوا، لأنكم بالدينونة التي بها تدينون، وبالكيل الذي به تكيلون، يكال لكم، ولماذا تنظر القذى في عين أخيك، وأما الخشبة التي في عينك فلا تفطن لها.. أم كيف تقول لأخيك دعني أُخرج القذى من عينك، وها الخشبة في عينك.. يا مرائي أخرج أولاً الخشبة من عينك وحينئذ تبصر جيداً أن تُخرج القذى من عين أخيك».
ولذلك يعجب المرء غاية العجب.. من أولئك الذين امتلأت مآقي عيونهم بالقطران، ونراهم يتصيدون غيرهم.. ليصطنعوا الفتن، ويهدموا كل ما يتم بناؤه.
نقلاً عن «الأهرام»