نيفين مسعد
منذ كنت طفلة.. وأنا أسمع من أمي أنها تخاف من البحر، وأنها لا تحب البحر، وأنها لو خُيّرت بين النار والبحر.. لاختارت النار. كان هذا الكلام يصدم طفولتي في الصميم، لأنني – مثل كل الأطفال – كنت أجد في الموج الأزرق.. خلاصًا من الأوامر والمذاكرة والروتين والقيود وحرّ الصيف، وأبحث بين تموجات المياه عن برااااح لا يتوفر على الأرض.
وما زلت أذكر.. كيف كنت مع أخويّ – نرتدي المايوهات تحت المرايل في آخر أيام الدراسة – حتى إذا مرّ علينا والدانا، نكون جاهزين تمامًا لملاقاة البحر. وهكذا، فما أن كانت تتوقّف السيارة الأجرة.. أمام شقة المصيف، حتى كنّا ننطلق نحن الصغار.. إلى الشاطئ، ونتركهم ينظفون الشقة، ولا نعود إلا مع آخر ضوء للنهار. كانت تذهب سُدًى.. نصيحة أمُّنا، بأن نترفّق بأنفسنا في أول يوم بحر.. حتى نعتاد على ملوحة المياه. وبالفعل، كان تقشير جلودنا يبدو مضحكاً جداً – خصوصاً في منطقة الأنف – لكن المتعة التي كان يمنحها لنا البحر.. لا حدود لها. تشهد على هذه المتعة شواطئ سيدي بشر وستانلي والمعمورة، وكل شواطئ الإسكندرية.. التى كانت جميلة، ورمالها.. التي كانت بلون الذهب، وكبائنها.. التي كانت نظيفة مثل الفل.
ملحوظة على الهامش: قام الآيباد بتعديل كلمة كبائنها مرتين.. إلى كبائرها. يبدو أن الآيباد هو الآخر لا يحب البحر.
***
لم يرتبط خوف أمي من البحر.. بواقعة معينة، لكن ربنا خلقها كده. ونحن لا نحتاج بالضرورة لأسباب.. تفسر لنا مخاوفنا، فبعضنا يخاف من الحسد، أو من الفقر، أو من الظلام، أو من كلام الناس، أو من الشيخوخة، أو من الفشل، أو من الموت، أو من الكلاب والقطط، أو من العفريت. تقول إحدى الأغنيات الشعبية: اللي يخاف من العفريت يطلع له.. ينزل له.. يقعد له.
هل لهذه الدرجة، يمكن للخوف أن يطاردنا في كل خطواتنا؟ نعم يحدث ذلك، وإذا غيّرنا حرف الجر (من) إلى (على) سنجد المزيد من المشاعر والكائنات والأشياء.. التي نموت خوفاً عليها.
عن نفسي كنت أخاف من الوحدة، ثم صرت أخاف أكثر من المرض وألم المرض، أما خوفي على مَن أحبهم فلم يتغيّر.. لم يتغيّر أبداً.
***
جلسَت الشابة العربية سامية (وهذا اسم وهمي) تحكي عن قصة الشاب لؤي (وهذا اسم وهمي آخر).. ذي التسعة عشر عاماً، الذي مات غرقاً في النهر قبل فترة قصيرة. كان لؤي مهووساً تماماً- كمعظم شباب العالم – بكرة القدم، أو بالمستديرة الساحرة كما يسمونها. يستحيل أن يلعب ناديه المحبوب.. إلا ويكون هو في طليعة المشجعين، حتى وإن لم يكن في جيبه ثمن التذكرة. لا شيء يثنيه أبداً.. يرتدي فانلة ناديه من صباحية ربنا، ويُخرج العَلَم من الخزانة، ويتخّذ طريقه إلى الاستاد. يحبس النَفَس ويتجمّد كصَنَم ويكتم الصوت، إلا أن تصدر منه صيحة فرح.. لهدف أحرزه ناديه المحبوب، أو صرخة غضب.. لركلة جزاءٍ ضاعت عليه.
يضع بؤسه وبطالته وحبه المؤجَّل لابنة خالته.. على طرف قَدَم هدَّاف الفريق، حتى إذا سدَّد الهدف وهزَّ الشباك.. أحسَّ أنه أنجز شيئًا. وفي هذا اليوم المشؤوم، شدّ لؤي الرحال كالمعتاد.. إلى الاستاد الذي تقام فيه إحدى المباريات الفاصلة في نهائيات الدوري العام. المدينة التي يوجد بها الاستاد.. تشتهر بزراعة الياسمين، وتفوح من شوارعها وشرفاتها وحوانيتها، وطبعاً من حدائقها، رائحة الياسمين. يقول نزار قباني في إحدى روائعه: شكرًا لطوق الياسمين.
***
مرّ الشوط الأول.. بالتعادل صفر-صفر، ومع الشوط الثاني دخل هدف وآخر وثالث في مرمى الفريق الذي يشجعه لؤي.. فبدأ التشنّج، وارتفع منسوب القلق. ساد الهرج والمرج، وعلا السباب، وتطايرَت الشماريخ في الهواء، وفي لمح البصر نزل المشجعون إلى الملعب. وجد لؤي نفسه محاطًا بشرطة مكافحة الشغب من كل صوب.. فركض، وركض خلفه شرطي.. تعهّد بأن يطارده حتى آخر نَفَس.
كان لؤي يركض بكل قوته، بساقيه الرفيعتين الفتيتين، بخوفه من الحبس والبرد والعزلة والإهانة، وبغضبه من هزيمة ناديه. ركض حتى وجد نفسه أمام النهر.. فالتفت إلى الشرطي من ورائه وصرخ بأعلى صوت: ما اعرفش اعوم، لكن كأنه لم يصرخ أبداً ولم يرتعد أبداً، بل كأن أحداً لم يره أصلًا. دفعه الشرطى بدمٍ باردٍ وقلبٍ جامدٍ وأعصابٍ من حديد.. إلى مجرى النهر قائلًا: اتعلم عوم، فاندفع لؤى إلى القاع بمنتهى السرعة. ابتلع في جوفه الأوحال والطحالب والأسماك الصغيرة، وامتلأت رئتاه بالماء، واختلَطَت في هذيان اللحظات الأخيرة.. كل الأشياء بكل الأشياء. ثم.. راح.
وبعد أيام، طفت على سطح النهر جثة مجهولة.. يرتدي صاحبها فانلة أحد الفرق الرياضية الشهيرة. قيل إن الشاب كان يحادث الشرطي، فلم ينتبه إلى أنه سيسقط في الماء، وقيل إن الشرطي نزع سترته وحاول إنقاذ لؤي.. لكن لكل أجلٍ كتاب، وقيل إنه لم يكن هناك شرطي من الأصل، وإن الحكاية ببساطة أن شاباً لا يعرف العوم.. نزل إلى النهر فغرق. أما الناس.. عامة الناس فالتقطوا هذه القصة المأساوية، وأطلقوا – عبر وسائل التواصل الاجتماعي – حملة بعنوان «اتعلم عوم»؛ وكأنهم يردون الاعتبار لكل الذين يتم إلقاؤهم في الماء، ولم يسبق لهم العوم.
***
رجّتني هذه القصة رجّاً.. ببساطتها وقسوتها في آنٍ واحدٍ، فتذكّرت كل شيء. تذكّرت خوف أمي من البحر، ومَثَلها الشهير «امشي سنة ولا تعدّي قنا» (أي.. قناة)، وتذكّرت عينيها المعلقتين بنا.. في كل مرة ننزل البحر، وزمجرتها حين ندخل في الغريق، أو الغميق كما يقولون، فزعًا من احتمال أن يجرفنا التيار، فهل كانت أمي محقّة في خوفها؟ من المؤكد أن كل الأمهات لا يخطئن.. هكذا نقول عنهن بعد أن نصير نحن أنفسنا أمهات.. لكن هل كان مصدر مشكلة لؤي هو النهر؟ أم كان المصدر هو الشرطي الذي دفعه إلى النهر؟
الإجابة معروفة. هذا إذا كان في المسألة يوجد شرطي، لأن البعض يشكّك في وجوده.
المهم أن الشاب لؤي.. لم يعد في المدينة.
صحيح.. ما زال عطر الياسمين يفوح في الأجواء، ويعطّر السماء، ويصل إلى شاطئ النهر.. الذي ابتلع تسعة عشر عامًا من التعاسة وحب الكرة.
صحيح ما زال هذا العطر موجودًا، لكن نزار قباني يقول:
ولمحتُ طوق الياسمين في الأرض مكتوم الأنين.. كالجثة البيضاء تدفعه جموع الراقصين.. كالجثة البيضاء تدفعه جموع الراقصين.
نقلاً عن «الشروق»