نيفين مسعد
بعد أيام قليلة من انتهاء العدوان الإسرائيلي على إيران، كتبت في هذا المكان.. مقالاً عن حاجة النظام الإيراني إلى القيام بإصلاح سياسي حقيقي، حتى يتمكن من الحفاظ على حالة الوحدة الوطنية.. التي تجلت في أروع صورها طيلة مدة العدوان. كانت هذه الحالة حقيقية بالفعل، وفاجأت إسرائيل – التي راهنت على تأليب الشعب الإيراني على نظامه – لكن الشعب كان يدرك أن العدوان الإسرائيلي السافر.. الذي استباح السيادة الإيرانية، هو عدوان على دولة كبيرة بحجم دولته؛ لها تاريخها الإمبراطوري العريق، وليس مجرد عدوان على نظام.. يختلف معه على السياسات والتوجهات.
ومن هنا التف الإيرانيون حول نظامهم، وسمعنا – على ألسنة بعض معارضيه – مفردات تشبه تلك التي يستخدمها المسؤولون الرسميون في إيران، بل إن منهم من رأى لأول مرة.. وجاهة معينة لفكرة امتلاك بلادهم سلاحاً نووياً لردع أي عدوان في المستقبل. لكن بعد أن حدث وقف لإطلاق النار بين إسرائيل وإيران، سرعان ما تجدد الاستقطاب الداخلي الإيراني.. حول أداء النظام، ولم يمضِ سوى يوم واحد، حتى كان الموقع الرسمي لمحسن كديور – وهو أحد كبار المفكرين الإيرانيين المعارضين لولاية الفقيه – يدعو للاستفتاء على تعديل الدستور، والتفاوض المباشر مع الولايات المتحدة.
أخذت تتدحرج كرة الثلج، وتعالت الانتقادات المطالبة بالإصلاح السياسي.. من شخصيات لها مصداقية عالية؛ مثل مير حسين موسوي، ومهدي كروبي – اللذين دفعا ثمنا غالياً بسبب معارضتهما لسياسات الجمهورية الإسلامية – وراحت كرة الثلج تكبر أكثر فأكثر.. وصولاً إلى البيان الذي صدر عن جبهة الإصلاح؛ التي تضم في إطارها مروحة واسعة من القوى السياسية.. تضمن 11 بنداً، تغطي المجالين الداخلي والخارجي.
وفي المقابل، اتُّهم دعاة الإصلاح بأنهم طابور خامس للولايات المتحدة وإسرائيل، وجرت محاولة لضرب أعضاء فريق الإصلاحيين.. ببعضهم البعض؛ ومن ذلك اتهام محمد جواد ظريف – وزير الخارجية الأسبق – بأنه هو الذي يحكم البلاد.. لكن من وراء ستار؛ من أجل إحراج مسعود بزشكيان رئيس الجمهورية. لكن هذا لم يمنع من الدعوة لإقالة بزشكيان نفسه، رغم اعتباره مجرد واجهة لظريف. وارتفعت أصوات تقلل من شأن الخلاف بين الإصلاحيين والمحافظين، وتعتبره نوعاً من الطقوس المتكررة والسير في المكان، بل وتعده إنقاذاً للنظام.. عبر إيهام الشعب الإيراني بأن هناك جناحا يؤيد النظام، وهناك جناحا يعارضه.. بينما الواقع هو أن الجميع تحت عباءة النظام.
في وسط هذه التجاذبات الداخلية، ألقى المرشد الإيراني علي أكبر خامنئي خطابا.. قبل أيام قليلة، أشار فيه إلى «ضرورة الحفاظ على الاتحاد المقدس» – ويقصد به الوحدة الوطنية بين الإيرانيين – محذراً الشعب من «عملاء أمريكا وإسرائيل.. المنتشرين في البلاد»، وكاشفاً عن أنه – بعد يوم واحد من هجوم إسرائيل على إيران – عقد عملاء أمريكا اجتماعاً في أوروبا، للبحث عن إيجاد «بديل للنظام الإيراني»، وحدَّدوا «ملكاً لمستقبل إيران».. ويقصد به رضا بهلوي ابن الشاه السابق. ويلفت النظر في هذا الخطاب أمران؛ الأول: هو إدراك النظام خطورة اهتزاز الجبهة الداخلية، خصوصاً أن الأيام القادمة ستكون شديدة الصعوبة.. سواء بتفعيل آلية الزناد الأوروبية، وإعادة فرض كامل عقوبات مجلس الأمن على إيران، أو بتوجيه ضربة إسرائيلية جديدة لإيران.. وهو احتمال وارد، ومتداول إسرائيلياً وإيرانياً على حد سواء.
أما الأمر الثاني: الملاحظ في خطاب خامنئي؛ فهو اعتباره أن المشكلة الأساسية هي مع أمريكا، وأن إسرائيل ليست سوى مجرد منفذ للأجندة الأمريكية، وهذه مقولة أساسية من مقولات الثورة الإسلامية منذ بداياتها الأولى، وجوهرها.. أن الولايات المتحدة هي الشيطان الأكبر، وإسرائيل هي الشيطان الأصغر. ففي الخطاب عودة لجذور العداء الأمريكي للثورة الإيرانية قبل 45 عاماً، واعتبار السبب الأساسي فيه.. أن «إيران لا تأتمر بأوامر أمريكا». وواقع الحال، أنه في المسألة الإيرانية – كما في عدة مسائل أخرى – ليس معروفاً من هو الشيطان الأكبر بالضبط، وما إذا كان الولايات المتحدة أم إسرائيل.
وفي اليوم التالي خرجت الصحف المحسوبة على المرشد والتيار المحافظ، تؤكد مطلب «الحفاظ على الاتحاد المقدس»، وضرورة دعم الوحدة الوطنية، وتحذر من المحاولات الأمريكية لبث الفتنة الداخلية.
ليست إيران هي الدولة الوحيدة التي ترتفع فيها الأصوات المطالبة بالإصلاح.. عقب أزمة كبيرة، لكن الموقف الذي تمر به إيران حالياً، هو الموقف الأصعب.. مقارنة بدول أخرى كثيرة. فلو أخذنا حالة مصر بعد نكسة 5 يونيو 1967 – كمثال – سنجد أنه رغم فداحة الهزيمة التي لحقت بها، إلا أن الرئيس عبد الناصر امتلك شجاعة الاعتراف بمسؤوليته عن الهزيمة، وبادر بالتنحي عن منصبه. ومع خروج المظاهرات الرافضة لقرار التنحي، جدد نظام الحكم شرعيته السياسية، ولم تتبلور معارضة داخلية إلا بعد سبعة أشهر.. بمناسبة صدور الأحكام العسكرية ضد قادة الطيران، التي اعتبرها المصريون أحكاماً مخففة. ثم كان بيان 30 مارس 1968.. كمحاولة من النظام لإدخال بعض الإصلاحات الداخلية.
لكن عندما ننتقل إلى إيران، نجد أن الوضع مختلف؛ فنحن إزاء نظام يعتبر نفسه.. خرج منتصراً من الحرب، ويعتمد على القوة الصلبة وحدها.. في الحفاظ على شرعيته الداخلية، ويدعو للالتزام بالنقد البناء لسياساته، وهذا كله لا يخلق جبهة داخلية متماسكة. أولاً: لأن فاتورة الحرب بالنسبة لإيران عالية جداً.. على المستويات الاستراتيجية والاقتصادية، وهناك فاتورة أعلى سيتعين عليها دفعها في المدى القصير – وربما القصير جداً – بمزيد من العقوبات مع احتمالات الحرب. وثانياً: لأن القوة الصلبة لا تكفي وحدها.. لاستمرار الشرعية السياسية لأي نظام، وإن كانت قد تساعد على تأسيسها في البداية. وثالثاً: لأن مفهوم النقد البناء.. هو مفهوم غير واضح؛ فلو كان رئيس جمهورية أسبق، ووزير خارجية أسبق.. يتهمان بأنهما يتآمران، لإقدامهما على انتقاد سياسات النظام، فأي شكل من النقد يعتبره النظام إذن نقداً بناء؟
النظام الإيراني يحتاج إلى جبهة داخلية متماسكة، والطريق لذلك.. هو الاستماع العقلاني لأصوات الداخل، وهذا موضعه مقال الأسبوع المقبل.
نقلاً عن «الأهرام»