محمد أبو الغار..
يا له من عنوان ساحر جذاب لكتاب توماس جورجسيان – العاشق لمصر، والمحب لجذوره الأرمنية – ونشرته حديثاً دار الشروق. إنها قصة حياة مذهلة في هذا الوطن الذي وُلد فيه وعاش شبابه فيه، وتعلم في جامعة القاهرة.. ليتخرج في كلية الصيدلة، ويترك المهنة بعد سنوات قليلة، ليلتحق بالأدب والصحافة والفن.. في عصر الكبار، الذين حادثهم وتأثر بهم. واختلطت كلماتهم وفلسفتهم ورحلتهم وإبداعهم بخلايا مخ توماس، فانفجر يكتب ويبدع.
عاش في «روزاليوسف» و«صباح الخير» – أيام مجد هاتين المجلتين – اللتين كانتا يوماً ما تؤثران في الشعب المصري، ورسامو الكاريكاتير كانوا يبدعون، ويسخرون من كل شيء.. حتى أنفسهم.
يحكي توماس عن رحلته في الصحافة المصرية.. التي بدأت عام 1981، بكتابة مقال عن جبران خليل جبران.. بمساعدة أستاذيه لويس جريس وعلاء الديب، حيث يقول إنه لن ينسى أبداً عطاءهما. وفي عام 1986، اقترب من كل عظماء «صباح الخير»، وصادق إحسان عبدالقدوس.. الذي قال له إن «صباح الخير» صدرت بعد الثورة، والثورة كان كل تركيزها على كبت الآراء السياسية، فكانت «صباح الخير» متنفساً للجميع، وقال له إحسان: كنت أعمل في المجلة، وأعود إلى البيت في الخامسة صباحاً، وكان يريد لـ«صباح الخير» أن تكون مجلة اجتماعية.. تهتم بالشخصية المصرية.
وحكى له أحمد بهاء الدين.. عن العدد الأول من «صباح الخير»، وأن إصدار مجلة جديدة.. له طعم خاص ومذاق ممتع. وتحاور مع العبقري صلاح جاهين، وتكلم عن كيف اخترع شخصيات فكاهية في الصحيفة، وأصبحت مدرسة «صباح الخير» لها طعم ورؤية وابتكار في فن الكاريكاتير.. بإبداع صاغه «جاهين».
كان يحضر إلى «الأهرام» – في مكتبه في الدور السادس – ليقابل كتيبة العظماء. أما توفيق الحكيم، فكان توماس يتغزل فيه.. أثناء جلسة ثقافية في مكتبه، لم يشبع منها أبداً. أما حسين فوزي – العبقري، صاحب المواهب، الذي أبهر الجميع – فجلس معه توماس ساعات وساعات، ونهل منه الكثير.
وجلس مع نجيب محفوظ في الإسكندرية،وتنبه لما قال له.. من إن الكتابة تحتاج إلى يقظة وانتباه وإصرار ومفاجأة.
أما مصطفى أمين.. فيكتب «فكرة»، بدون أن يتوقف، في دقائق. وكيف رسم يوسف فرنسيس دعوة فرح توماس، وكيف ذهب يحيى حقي إلى الكنيسة الأرمينية.. ليهنئ توماس وعروسه بالزواج.
والتقى مع «عبقرينو القصص القصيرة»، يوسف إدريس..مرات متعددة، ونهل من جنونه وعبقريته. وصادق بيكار – الفنان الفيلسوف الجميل – ومازال توماس ينشر كل جمعة لوحة.. مع كلمات تعبر عن فلسفة عميقة كتبها بيكار، كانت تُنشر في الأخبار كل يوم جمعة.
وصادق رشدي سعيد وإبراهيم عويس وسمير فريد، والكاتب الفلسطيني سميح قاسم، والصحفي محمد العزبي. إنها معجزة.. أن تعرف كل هؤلاء الموهوبين عن قرب، وأن تتعلم منهم، وتضحك معهم، وتؤرخ لنا أحداثاً وحكايات لم نعرفها من قبل.
عمل توماس في واشنطن.. مراسلاً للوفد لمدة عشر سنوات، وكتب أيضاً للأهرام الاقتصادي والويكلي والجمهورية والنهار اللبنانية، وكتب رسائل من واشنطن للأهرام وللمصري اليوم.
حكاية توماس.. هي حكاية الأرمن، الحكاية القلقة الحزينة، التي أبرزت فنانين عظماء ومصوري فوتوغرافيا عباقرة، وآلافاً من ذوي المهارات لإصلاح الساعات والراديوهات والكاميرات والبيانو.
وُلد أبوه عام 1911 ورحل ليصل إلى القاهرة وعمره 4 سنوات – مع جد توماس – ويعيش في شبرا، وله جملة مؤثرة.. يقولها لتوماس وإخوته عندما يتنمرون: «احمدوا ربنا إن فوقكم سقف، هذه نعمة كبيرة»، وهي جملة تنم عن عذابه في الطفولة، إذ عاش سنوات في العراء.. متنقلاً من مكان إلى آخر. وكانت الأم الأرمنية هي حامية الأسرة، وزيرة ماليتها، مربية الإخوة الصبيان والبنات، حيث انتهى به المطاف بين مصر وفرنسا وأمريكا وكندا. كان أبوه صامتاً لا يرغب في الحديث عن طفولته.
يذكر توماس كل مَن أثر فيه من الفنانين الأرمن.. في الموسيقى والغناء والتمثيل. وواضح من الكتاب أن الأرمن المصريين مختلفون عن الأرمن في مختلف بلاد العالم، فهم مصريون بالجنسية وبإجادة اللغة العربية بدون لكنة، وبانخراطهم في التجنيد. توماس قضى عاماً مجنداً، وزوج أخته شارك في حرب 67 في سيناء، وعاد من هناك مشياً على الأقدام.. مع الآلاف في إحدى الحكايات المرعبة.
بيت عائلة توماس.. كان بيتاً أرمينياً بمعنى الكلمة. أطلق عليه توماس أرمينيا الصغيرة. حافظوا على اللغة والتقاليد والمأكولات والمشروبات والترابط العائلي، وكل هذا لم يَعُقْهم عن أن يكونوا مصريين أيضاً بمعنى الكلمة.
يحكي توماس ببراعة وحب وذهول عن حياته كصيدلي في أجزاخانة مترو في شارع عماد الدين. يتحدث عن الزبائن بأنواعهم المختلفة وطرق المعاملة معهم، وبصفته ملك الحكائين، فهو يحكي عن الناس بلغة الناس، ومع زبائن قهوة ركس القريبة، وقهوة بعرة التي يجلس عليها كومبارس السينما.
أما القاهرة ووسط البلد.. بالتحديد، فكتب عنها توماس بعشق رهيب، توماس داس في كل شوارعها وأزقتها.. بالليل والنهار، في الصيف والشتاء؛ فهي حبه الكبير، ويصفها برقة وروعة.. مختلطة بقاهريته الأرمينية الصغيرة، التي تقبع في ركن من القاهرة الخديوية.
يتحدث توماس عن زوجته الرائعة ليز – التي تشرفت بمقابلتها عدة مرات – وعن ابنته مارجريت التي تعيش في بوسطن، والتي يكتب شعراً رائعاً عنها، وعن علاقته بها والحب المتبادل بينهما.
يتحدث توماس عن واشنطن.. وكلماته محايدة؛ فهو لا يحبها ولا يكرهها، ولكنه يعيش فيها، ويتعايش معها. هو الصحفي الكاتب المراسل، الذي زرع في وسط مستنقع السياسة الأمريكي، فهو ينظر إلى ما حدث في واشنطن من أعلى.. بسخرية شديدة وفهم لما يحدث.
توماس كاتب وصحفي وأديب، يحكي عن طفولته.. وكيف تعلق بالقلم والورقة؛ فهو منذ طفولته.. كان مبهوراً بالكتابة وبالصورة وبالفكرة، ولذا كانت دراسته للصيدلة أمراً غريباً عليه. ولأنه متوافق مع نفسه وأفكاره، وعنده الشجاعة الكافية، ترك الصيدلة لمهنة القلم.. غير مضمونة المستقبل؛ فهي حرفة لها أهواء، وفيها مختلف الاحتمالات.. من الصعود إلى القمة إلى الغياب داخل السجون. وفيها المشهورون الكبار، وفيها الفقراء الذين لا يعرفهم أحد. وفيها الموهوبون وأيضاً عديمو الموهبة، والبسطاء والمتسلقون. شاهد توماس – عن قرب – كل هؤلاء، ودخلت هذه الشخصيات.. بتصرفاتها المتناقضة، داخل شرايينه، وخرجت منها شخصية كاتب وصحفي مبدع وجميل.
أعود إلى الكتاب المليء بالشجن عبر كل صفحاته، والمليء أيضاً بالحب وكذلك بالحزن.
انتقال توماس إلى واشنطن، لم يفصله أبداً عن قاهريته المصرية والأرمينية، فهو دائم الاتصال بها، ويزورها كل عام، وله المئات – بل الآلاف – من الأصدقاء والمعارف.. في كل اتجاه، وكل ركن، وكل مهنة. ولكن في الصحافة والأدب.. هو يعرف الجميع، وله شعبية كبيرة بينهم جميعاً.
وفي النهاية، هذا كتاب سهل في قراءته، عميق في معانيه، وهو ليس كتاب تاريخ، ولكنه يحكي التاريخ الحقيقي للوطن وللبشر. هو تاريخ للصحافة المصرية عن طريق الحديث مع رموزها، هو تاريخ أرمن مصر بجمالهم وذوقهم وشطارتهم. هو تاريخ البسطاء الذين يملأون القاهرة ضجيجاً وفناً وموسيقى وزيطة وزحمة، كلهم موجودون في الكتاب بلغة وأسلوب رقيق وسهل وممتع.
قوم يا مصري.. مصر دايماً بتناديك.
نقلاً عن «المصري اليوم»
إنها مشربية حياتي وأنا العاشق والمعشوق

شارك هذه المقالة