Times of Egypt

إسكندريتي: حكاية يونانية مصرية

M.Adam
محمد أبو الغار 

محمد أبو الغار


وُلدت جولي ليوتسنيدس في الإسكندرية عام 1936، وتعلمت في الليسيه فرانسيه، والتحقت بكلية
العلوم جامعة الإسكندرية، ثم أخذت منحة للدراسات العليا في أمريكا، وتزوجت من زميل باحث
أسترالي هناك، وتعيش الآن في جنوب كاليفورنيا، وكتبت عدة كتب عن رحلاتها مع زوجها،
وهذا هو آخر كتاب لها، ترجمته للعربية غادة جاد، وصادر عن المركز القومي للترجمة.
الكتاب يحكي التفاصيل الدقيقة لعائلة يونانية من الطبقة الوسطى، تدهورت أحوالها في سنوات ما
بعد التمصير والتأميمات التي حدثت في أوائل الستينيات. كتب مقدمة الكتاب هاري تزاليس –
مدير معهد الدراسات الهيلينية السكندرية – وبين فيها عشق أهل الإسكندرية من المتمصرين
للمدينة.
يقول تزاليس إن عشرات الآلاف من اليونانيين.. عاشوا بسلام ضمن جاليات أخرى في
الإسكندرية، فلم تكن المدينة بوتقة انصهر فيها الجميع مع المصريين، بل عاشت كل قومية
تتمسك بهويتها ومؤسساتها التعليمية والثقافية والدينية. وإن الإسكندرية أجمل مدينة في العالم،
عاش فيها العالم كله، ولكن أغنياء اليونانيين نقلوا أموالهم في الوقت المناسب، وتخلوا عن القيادة،
وتركوا الجالية فى مهب الريح.
حضر أبواها إلى الإسكندرية ضمن الشتات عام 1922، بعد أن طردهم الأتراك، وعمل الأب
بالتجارة.
كان من حق الأجانب الحصول على الجنسية المصرية، ولكنهم لم يرغبوا؛ لينعموا بالامتيازات
الأجنبية.. مثل الإعفاء من الضرائب، والمحاكم الخاصة بهم. وتقول كان هناك 97 ألف يوناني
في نهاية القرن التاسع عشر، أصبحوا 300 ألف في الثلاثينيات من القرن الماضي، عملوا في
جميع الأعمال الكبيرة والصغيرة، وكان منهم كبار الأغنياء وأفقر الفقراء. وكانت تبرعات أغنياء
اليونانيين للجالية في مصر عظيمة، وكذلك لليونان. توسيتساسن من كبار المتبرعين لإنشاء
جامعة أثينا، وبيناكي أنشأ متحفه الشهير في أثينا.

تحدثت الأم مع الابنة والابن والزوج باليونانية الدارجة، وتحدث الأب مع الأطفال بالفرنسية،
وتحدثت العائلة مع المصريين بالمصرية العامية مع خليط إيطالي فرنسي. وكانت الدراسة في
كلية العلوم بالإنجليزية، وكان الأب يشتري صحيفة فرنسية وأخرى يونانية.
في البيت كانت هناك سيدة تغسل الملابس على السطوح، وأخرى تقوم بنشرها على الحبال،
وهناك سيدة يونانية تكوي الملابس. ويحضر المنجد كل عام لتنجيد المراتب.
تتحدث عن شركات الطيران الأمريكية والبريطانية والفرنسية، التي أصبحت تطير من
الإسكندرية في نهاية الأربعينيات. وكانت قراءة البخت في فنجان القهوة.. طقساً يومياً للجالية
اليونانية.
وعن الأسواق، تتحدث عن سوق السجاد، وعن والدها الخبير في أنواع السجاد، واقتنائه، وكذلك
سوق الإبراهيمية الشهير للخضار والفاكهة، الذي كان سوقهم الأساسي. وتتحدث عن المقاهي
السكندرية، والشيشة، وكذلك عن الحلويات الشهيرة في الإسكندرية مثل ديليس، والتريانون،
وأتينيوس، وغيرها. وكان المجتمع السكندري سعيداً بمشاهدة الأوبرا، والاستماع إلى الغناء في
مسرح محمد علي (سيد درويش الآن). وكانت زيارة السينما حدثاً هاماً، وتقول إن الأفلام كانت
تُعرض في الإسكندرية.. بالتزامن مع أوروبا وأمريكا، وقبل القاهرة.
الأدب والثقافة والرسم كان لهم باع كبير في أتيليه الإسكندرية، وفي الأندية الثقافية، وكانت هناك
مدارس يونانية متميزة ومجانية، ينفق عليها أغنياء الجالية، وكان في برنامج الدراسة أدب يوناني
عظيم، ولكنه لم يُدرس أدب كازانتزاكيس العظيم.. لأنه شيوعي، والشاعر الخالد كفافيس.. لأنه
مثلي.
تحكي – في فصل كامل – عن الحرب العالمية الثانية، وقصف الإسكندرية بالقنابل والطائرات،
والرعب الذي حدث حين وصل الألمان إلى العلمين، وهروب اليهود إلى جنوب أفريقيا، والشام،
والسودان. وتحكي عن المعاناة طوال الحرب من نقص المواد الغذائية، وحتى الصابون كانوا
يصنعونه في البيت. وتحكي عن الكراهية الشديدة.. التي كان يُكنها المصريون للإنجليز، والتي
انعكست على الأجانب بشكل عام، وخاصة بسبب الامتيازات الأجنبية. وتغير النظام بعد حرب
1956، وبدأ التضييق على الأجانب.

وفي أمريكا، تعرفت على صديق أسترالي، هو أيضاً باحث في الكيمياء، وبعد صداقة استمرت
شهوراً، تزوجا، واستمر الزواج 43 عاماً، حتى توفي الزوج بالسرطان. وقد قاما بالعديد من
الرحلات حول العالم، ساعدهما فيها.. أن زوجها أصبح مديراً لشركة أمريكية عالمية. وزارا
مصر عام 1964، وزارت الأب والأم في الإسكندرية، وساعدت أبويها على الرحيل إلى اليونان
بعد ذلك، حين أصبحت الحياة صعبة.. نظراً لتأميم عمل الأب، وبيته، وعاشا السنوات الأخيرة
لهما في اليونان.
زارت جوليا مصر مرات كثيرة – آخرها كان عام 2014 – وشرحت بالتفصيل ما شهدته في
زيارة لها في الثمانينيات، عن تحول الإسكندرية التي وُلدت وعاشت شبابها فيها.. إلى مدينة
مختلفة تماماً، تغيرت أسماء الشوارع، وشكلها، وواجهات البيوت.
عاشت في القاهرة سنتين، حين كان زوجها مديراً إقليمياً لشركته في البلاد العربية، فأقامت طوال
هذه الفترة في فندق شيراتون بالقاهرة، وتوثقت علاقتها بمجموعة من المصريين، وزارت
الإسكندرية مراراً، وتعرفت على السيدة جيهان السادات، وصادقتها. وارتبطت بمكتبة
الإسكندرية، وأصبحت أحد رعاتها، وكتبت فصلاً عن المكتبة وتطورها ومستقبلها. بالطبع
زارت بيتها في كامب شيراز، وفُجعت من المنظر، وزارت مدرستها، ودعتها الناظرة إلى رؤية
الفصول والتلاميذ، وكانت الزيارة إيجابية، ولكنها تقول إن مصاريف المدرسة مرتفعة جداً، وهو
الحال الطبيعي في المدارس الخاصة، الآن.
تقول المترجمة.. إن الكثير من اليونانيين الإسكندريين كتبوا عن حياتهم في الإسكندرية، وتركوا
حكاية.. ربما تمثل إعادة صياغة لكلمات كفافيس، وأرادوا أن يكونوا جديرين بأن يكونوا
إسكندريين أصليين، فتركوا بصماتهم على المدينة. وتكاد أعمالهم تندرج تحت ما يسمى أدب
الحنين.
جولي تصحبنا يداً بيد، وتمشي بنا في الإسكندرية منذ طفولتها، وتعود إليها مرات بعد أن غادرتها
نهائياً.
كتاب جميل ومؤثر عن الإسكندرية وجاليتها اليونانية التي اندثرت، وخلفت فقط ذكريات.
قوم يا مصري.. مصر دائماً بتناديك.
نقلاً عن «المصري اليوم«

شارك هذه المقالة