وجيه وهبة
لم تكن كتابات «إحسان عبدالقدوس».. كتابات تقليدية – سواء أكانت إبداعية روائية، أو كانت مقالات سياسية واجتماعية – بالإضافة لدوره المهم في عالم الصحافة، كامتداد لمسيرة والدته «روز اليوسف». كان وحده نسيجا.. بين أقران جيله؛ إذا آمن بقضية، اندفع إلى أقصى مدى في الدفاع عنها، مهما كانت التبعات، ولكم دفع من حريته ثمناً باهظاً، نتيجة لمواقفه الشجاعة، السياسية والاجتماعية، سواء في «مصر» الملكية، أو في «مصر» الجمهورية.
كان تقدمي الفكر منذ شبابه المبكر، يكتب بجرأة ضد التقاليد والأعراف البالية، خاصة فيما يتعلق بحقوق المرأة ــ ربما تأثراً بتجربة ونموذج والدته الرائدة ــ فعلى سبيل المثال، نذكر موقفه من شيخ الأزهر «محمد مأمون الشناوي» في نهاية الأربعينيات من القرن الماضي، حين أصدر بياناً، يحرم فيه نشر الصور العارية في الصحف، (وكان المقصود بـ«العري» صور النساء بثياب البحر.. «المايوهات»)، كتب «إحسان» مقالاً.. ندد فيه بأفكار الشيخ الرجعية، ودافع عن حق المرأة في ارتداء المايوه دون أن يتحرش بها متحرش، مبيناً: «إن الإغراء أو التحريض.. يصيب العقل لا العينين.»… «وأن صحفنا إن لم تنشر صوراً للنساء بثياب البحر؛ أصبحت صحفاً يمنية أو سعودية، أو أردنية، ولكنها لن تكون أبداً صحفاً مصرية» (على حد قوله.. أو نبوءته). هكذا كانت شجاعة «إحسان»، وهكذا كانت حرية التعبير، منذ ثلاثة أرباع القرن.
وهناك أيضاً مثال آخر يبين مدى إدراك «إحسان».. الكاتب الصحفي لدوره، ومسؤوليته تجاه مجتمعه، ورصد أحوال الناس، والشعور بأوجاعهم، واستشعاره لخطورة تجاهلها، والتحذير من عاقبة ذلك، ففي مجلة «روز اليوسف» (عدد 3 يوليو عام 1951) كتب مقالاً بعنوان: «حكام من الأسياد وأمة من الفقراء». يعلق فيه على حوادث متناثرة، جرت هنا وهناك، نعرض لبعض مما جاء فيه.
يقول «إحسان»:
«كان الأمر طبيعياً، وكان من المنتظر أن يثور الفلاحون هذه الثورة المسلحة، وأن يهجموا على قصر المالك ليحطموا أثاثه، والتعدي على رجاله، وأن يتربصوا به ليحرقوا سيارته، وينتظروا الظلام ليحاولوا اغتياله، ولم تكن هذه هي الثورة الأولى.. في السنين الأخيرة، كما أنها لن تكون الثورة الأخيرة…»، «… والذين لا ينتظرون هذه الثورة، ولا يحسبون حسابها.. أغبياء، بلغ من ضيق عقولهم وسواد ضمائرهم.. أن أخرجوا الفلاح من طائفة الآدميين، فليس من حقه أن يحس، ولا أن يتذمر، ولا أن يطالب بحقه، ولا أن يثور، إنه شيء وُجد على الأرض.. ليعذَّب دون أن يئن، ويمرض دون أن يتوجَّع، ويموت دون أن يُترحَّم عليه.. إنه شيء كدود الأرض، وُجد ليعيش في الطين، وليُسحق بكعب الحذاء..».
«… هذا هو الفلاح – كما يتصوره الأغبياء – ولكن الله أراد أن يكون الفلاح من الآدميين؛ له عينان، يستطيع أن يرى بهما أحذية الأسياد اللامعة، ثم يرى قدميه الحافيتين. ويرى بهما قصور الأسياد الشاهقة، ثم يرى كوخه الأسود. ويرى بهما نعيم الأسياد واسترخاءهم، ثم يرى شقاءه وشقاء أولاده. وهو آدمي.. له عقل، إن لم يستطع به – لجهله – أن يجيب، فهو يستطيع أن يتساءل: أين تذهب هذه الخيرات، التي تخرج من بين أصابعه ومن تحت قدميه، ولماذا لا يكون له منها النصيب الأوفي؟». «… ثم هو آدمي، إن لم يكن له وعي ناضج، يفسر به ما يدور حوله، فإن له إحساساً.. إحساساً بأنه يتعذب، وبأنه شقي، وأنه فقير، وبأنه جاهل، وبأنه مريض، وبأنه مظلوم..».
ويواصل «إحسان» حديثه عن الفقراء:
«… قد علمناهم القراءة ليفهموا، فإذا فهموا يجب أن يثوروا، لأنهم سيجدون الجواب.. على تساؤلهم الحائر، وسيرون عدوهم، وسيعلمون أين تذهب خيرات الأرض، وسيعلمون لماذا هم فقراء أشقياء، سيقرأون أن هذه الخيرات.. تصب في أعمدة من الذهب، تقام عليها قصور الأسياد، ويقرأون أن هذه الخيرات.. تتحول إلى فرنكات ودولارات، يصطاف بها الأسياد، ويشترون بها شهواتهم، ويقرأون أن شقاءهم يظهر في حبات من الماس، تغطي الظهور والصدور العارية،…..، ويقرأون أن الدولة كلها يملكها الأسياد، وأن القوانين يضعها الأسياد، وينفذها الأسياد، لمصلحة الأسياد، ويقرأون أن الأسياد هم الوزراء وهم الشيوخ والنواب، وهم أصحاب النفوذ في كل مكان، وليس لفقير بينهم مكان…».
ويواصل «إحسان»:
«… إذاً أين المفر؟ أين المفر من الظلم؟ وأين المفر من الفقر؟ وأين المفر إلى النور؟ ليس هناك إلا أن يتجمع الفقراء في وجه الأسياد.. وما داموا قد فهموا، فلن يتجمعوا في شكل عصابات إجرامية للسطو، بل يتجمعون في شكل عصابات ثورية واعية، لها هدف ولها نظام، وهذا ما حدث في كل دولة، وهكذا بدأت كل ثورة وبدأ كل انقلاب، سواء انتهى إلى النظام الشيوعي أو إلى أي نظام آخر. ورغم ذلك فإني لا أحبذ الثورة، ولا أدعو لها، ولكني أحذر منها الأسياد، حتى يحسبوا حسابها، وحتى يتجنبوها.. بإفساح مكان في الدولة للفقراء، والفقراء هم الأمة، وهم الذين أقيمت الدولة لصيانة حقوقهم، وهم الذين وُضعت القوانين لحمايتهم وهم الذين فُرضت ضرائب لإسعادهم، وهم الذين يعيش بهم الأسياد ويموت بهم الأسياد. إني أحذر.. فمصر لن تنام طويلاً». ا.هـ.
لم يمضِ سوى عام واحد على مقالة «إحسان» التحذيرية، حتى تحققت نبوءته، استيقظت «مصر» على «حركة الجيش» (في 23 يوليو 1952)، التي تحولت إلى «ثورة»… «عهد جديد»، فهل تحققت العدالة الاجتماعية التي تطلَّع إليها؟ هل انقشع ظلم الأسياد؟ هل تبدَّل حال الفقراء؟ هل تبدَّل حال الأسياد؟ أم أن الذي تبدَّل هو: الفقراء والأسياد أنفسهم.. والمسميات؟.
نقلاً عن «المصري اليوم»