زاهي حواس
هذه صرخة عمرها الآن 3225.. سنة بالتمام والكمال. أطلقها أحد أجدادنا الفراعنة، واسمه أمون نخت، ضد البلطجي المجرم «با نب»، الذي لم يترك جريمة إلا وارتكبها، فلقد قتل وسرق، واغتصب النساء، وارتشى، وأساء استغلال السلطة، وأخيراً سبَّ فرعون نفسه.. قائلاً: «من اليوم ما فيش فرعون! أنا فرعون!» هل يُذكِّرنا هذا القول بشيء؟ عاش المجرم با نب في قرية العمال، بمنطقة دير المدينة غرب الأقصر. وكانت وظيفته – مع الأسف – رئيس فرقة عمال الميمنة، حيث كان عمال دير المدينة ينقسمون إلى فرقتين، ميمنة وميسرة.
نال البلطجي با نب المنصب، بعد قيامه برشوة الوزير المسؤول عن إسناد مثل هذه الوظائف، وذلك في أواخر عصر الأسرة التاسعة عشرة، وتحديداً عصر الملك سيتي الثاني وخليفته الفرعون سيبتاح.. في حوالي 1200 قبل الميلاد. ويجب التذكير بأن أشهر فراعنة هذه الأسرة.. هو الفرعون رمسيس الثاني؛ الذي لم يكن با نب وأمثاله من المجرمين يجرؤون على ارتكاب مثل تلك الجرائم في عصره.
في عام 1835م، يبيع حرامي الآثار هنري سولت – القنصل الإنجليزي في مصر في ذلك الوقت – بردية.. ضمن مجموعة من الآثار إلى المتحف البريطاني، أطلق عليها اسم «سولت 124»، ولا تزال محفوظة بالمتحف تحت رقم 10055. تظل البردية مجهولة.. لا يعرف محتواها، إلى أن قام عالم الآثار التشيكي العبقري ياروسلاف تشيرني بترجمتها، في منتصف القرن الماضي.. بعد عدة محاولات غير ناجحة، أشهرها ترجمة فرانسوا شاباس سنة 1860. واتضح من خلال ترجمة تشيرني، أن البردية هي محضر رسمي.. حرره الكاتب أمون نخت ضد البلطجي عتيد الإجرام با نب، وإليكم الترجمة يعقبها التعليق:
«إلى حضرة الوزير، للتفضل بالتحقيق مع رئيس العمال با نب، ابن العامل خع، ابن (اسم الأم مفقود)… وذلك لما فعله من الجرائم التالية: لقد تسبب في قتل رئيسه في العمل، كاتب المقبرة نفر حتب، بينما كان نفر حتب يؤدي عمله من أجل فرعون. لقد استأجر (با نب) المجرمين وجعلهم يذبحونه بالسكين في المكان العظيم وادي الملوك. ثم طارد أرملته تيري خان وتزوجها. لقد سرق الأحجار الملكية.. الخاصة بفرعون من المكان العظيم بوادي الملوك، وسرق الأخشاب التي أعطيت لفرقة العمال.. لتنفيذ مشاريع فرعون، وصنع منها بوابة عظيمة لبيته الخاص. لقد نهب مقبرة العامل (الاسم مفقود)، وسرق خنجر الإلهة إيزيس.. الذي كان مخبئاً في معبدها، وهو من النحاس المطعم بالذهب، وباعه للأجنبي حوري. وسرق خمس حصص من اللحم من مقبرة العامل (الاسم مفقود). وعين نحاتي الحجر والخدم ليصنعوا له حوضاً حجرياً لبيته الخاص، مما أبقاهم بعيداً عن العمل لفرعون. وجعل فرقة العمال – تحت رئاسته – تبني جداراً لمنزله الجديد، بعيداً عن عملهم لفرعون. ضرب كاتب الوزير قن حر خبش إف.. حتى سال دمه. وضرب الشرطي حوري. وضرب العامل بنوب، وسرق إوزه وباعه للأجنبي مري سخمت. وضرب العامل نخمت وسرق ماعزه. وهدد العامل وبخيت قائلاً له: سأقتلك! فاختبأ وبخيت منه لمدة ثمانية أشهر خوفاً على حياته. نام (ارتكب الزنا) مع السيدة توي.. عندما كانت زوجة العامل كينا. ونام مع السيدة حيل.. عندما كانت مع العامل بن دوا. ونام مع السيدة حيل.. عندما كانت مع العامل حسي سو نب إف. ونام مع السيدة (الاسم مفقود) ابنة (الاسم مفقود). لقد قال للعامل عا بحتي: دعني أنام مع زوجتك! وقد أذعن عا بحتي.. خوفاً منه، وجعله ينام مع زوجته. لقد اغتصب – بوحشية – السيدة يي مننا.. على سطح منزلها وكانت تصرخ. أرجو إرسال المحققين للتحقيق معه في جميع هذه الجرائم التي ارتكبها، وتستوجب قتل مرتكبها؛ فجرائمه كثيرة لا يمكن إحصاؤها».
توصف بردية سولت.. بأنها أكثر وثيقة – من العالم القديم – إنسانية، ترسم لنا مشاهد لما كانت عليه الأحوال في دير المدينة.. عندما كان يعيش بها هذا البلطجي المجرم با نب، الذي روع العمال، ومارس عليهم كل صنوف البلطجة والإذلال. وقد يظهر مدافع عن با نب قائلاً إن البردية مجرد دعاوى ضد با نب، قد تصدق وقد تكون بدافع الحقد والكراهية والمكايدة! وأننا لا نعرف كيف دافع با نب عن نفسه ضد تلك الادعاءات؟ ورداً على هؤلاء أقول إنني – كمتخصص في الآثار والعمارة والفن المصري القديم – أكاد أجزم بأن كل ما ورد أو معظم ما ورد في تلك البردية صحيح تماماً، والسبب هو أننا لو قارنا مقابر تلك الفترة، لوجدناها فقيرة.. تخلو تماماً من مظاهر الجمال والأبهة، التي كانت عليها سابقتها.. وحتى تلك التي تلتها؟! والسبب معروف طبعاً، فعندما ينتشر الذعر ويختفي الأمن والأمان، فلن يبدع فنان أو عامل في عمله.
ونحن نعرف أن فناني وعمال دير المدينة.. هم بناة مقابر وادي الملوك، وكذلك مقابر الأشراف في غرب الأقصر. إن ذكر ما اقترفه با نب بالتفصيل، ومطالبة الوزير بالتحقيق فيها، يؤكد على أن المجتمع المصري القديم.. كان يصنف تلك الأعمال على أنها جرائم، تستوجب قتل مرتكبها.. وليس سجنه فقط، وعندنا أدلة – من الآثار، ومن القرآن الكريم – على أن عقوبة السجن كانت موجودة منذ أقدم العصور الفرعونية. إنها مصر الفرعونية.. التي دائماً ما تبهرنا وتثير إعجابنا.
نقلاً عن «المصري اليوم»