Times of Egypt

أيام في طفولتنا لها تاريخ

M.Adam

جميل مطر
تصغرني بعامين. اتصلت بها في السابعة صباحاً.. لتوثيق معلومة تقع ضمن ذكريات طفولتنا. ردَّت على اعتذاري عن الاتصال المبكر بأنها – كما حال من في سنها – تستيقظ قبل بزوغ الشمس.
سألتها، ثم سألت خالتها – وهي في مثل عمرها – عن مناسبات في طفولتنا تتذكر أنها أكثر من غيره.
فاجأتنا بطلب أن تحكي لنا نميمة صغيرة، تُذكِّرها بحال الزمن الذي ننوي التحدث عنه. قالت إن أباها وأمها كانا يسمحان لها وهي طفلة.. بالنوم معهما في غرفتهما بين الحين والآخر. في أحد تلك الأيام – أو في ليلة من لياليها – سمعت أباها يلفت نظر أمها إلى أنها تبالغ في الإنفاق، حين تقوم بدفع 15 جنيهاً.. قيمة شراء زبدة بلدية من الريف.. لزوم تخزين السمنة البلدية في بيتنا.. من الربيع إلى ربيع آخر.
اجتمعت ذاكراتنا – أقصد ثلاثتنا – على مناسبات بعينها واختلفت – أو تفاوتت – على مناسبات أخرى. اجتمعنا على مناسبة تنفيذ «النذر». تأتي الشقيقتان – ابنتا أختي – في الليلة السابقة ليقضيا النهار معنا من فجره. البيت يعج من مطلع النهار.. بفلاحات قدمن من الريف، وشغالات بيتنا وبيت شقيقتي وبعض الجارات وشغالاتهن.
أمي في المطبخ.. تنظم وتتأكد من أنواع وجودة البهارات – التي توضع في «الآذان» الكبير – لتغلي مع قطع اللحم. تتذوق المرق بنفسها ولا بد أن تضيف إليه من صنف البهارات أو من الماء، وتعود إليها كل حين.. لتزداد ثقة في جودة الطعم والنوع. نراها تترك المطبخ، لتتأكد أيضاً بنفسها من جودة أرغفة الخبز رغيفاً رغيفاً. تستبعد الرغيف المثقوب والرغيف الملتصق وجهه بظهره. تمر بين العاملات والقريبات المتطوعات – أو نظير بركة تحل عليها وعلى أسرتها أو حسنة تحسب لها يوم القيامة – تمر عليهن توزع التعليمات وأهمها الحرص على جودة الرغيف من مظهره كما من محتواه، باعتباره وسيلة «النذر».. للتقرب إلى الرب أو شكره.. عن طريق إشباع فقير، أو تلبية رغبة محتاج.
أتذكر أننا – كأطفال – كوفئنا على حُسن سلوكنا، بالسماح لنا بمرافقة الفريق.. الذي سوف يعهد إليه بمهمة توزيع الأرغفة على المستحقين، الملازمين لمسجد وضريح السيدة زينب.
لم تكن سهلة – حسبما عرفت فيما بعد – مهمة تشكيل الفريق؛ فالمنافسة كانت دائماً حامية بين المتقدمين لقيادة – أو عضوية – هذا الفريق، لما يتبع المهمة من ثواب عظيم. أتذكر أنني حظيت بهذا الشرف مرتين في عام واحد. كانت المرة الثانية.. عندما حلت – في بيت جدتي – مناسبة «نذر» آخر، وكان هدفنا مسجد سيدنا الحسين.. وجواره المترامي.
أتذكر أيام الانتخابات للبرلمان. كانت مناسبة للصبيان من الأطفال للهو، وتقليد هتافات الكبار. البنات لا يشاركن في مؤتمرات انتخابية، ولا في مسيرات المرشحين. أتذكر آخر انتخابات سياسية – ليس فقط لأنها انطلقت من «حوش» مدرستي – ولكن أيضاً لأنها أثارت أسئلة أمام عقلي المتواضع. عدت ذلك اليوم، لأسأل والدي وهو خبير العائلة الممتدة من الناحيتين – ناحية الأم وناحية الأب – خبيرها الوحيد في شؤون السياسة والأحزاب وأسماء الكبار. سألته عن السبب وراء استخدام الحمار.. الذي كان يركبه صباح ذلك اليوم مرشح حزب الوفد في مسيرته، ومن خلف الحمار يمشي عشرات المراهقين والشبان.. يهتفون باسم المرشح. لماذا لم يمش بين الناس، أو حمله على الأعناق مريدوه. غضب الوالد. راح ظني إلى أنه غضب لقصة الحمار، قبل أن يصدر تحريماً بأن لا أنضم لمثل هذه الاجتماعات السياسية والحزبية، وألا أخضع لإغراءات المروجين لها. هو نفسه كان وفدياً أو صديقاً لوفديين كبار.
عدت أسأل رفيقتي طفولتي عن مناسبات.. كانت لهما أدوار فيها. توافقتا على مناسبة سنوية، تأتي في أعقاب نهاية السنة المدرسية، واشتداد حرارة الصيف في القاهرة. كانت الاستعدادات للسفر إلى المصيف.. تبدأ قبل اليوم المحدد بأيام غير قليلة. تقول إحداهما أنها تتذكر جيداً أن جدتها – التي هي أمي – كانت تفضل اصطحاب أدوات مطبخها، مثل الحلل والطاسات والأطباق والملاعق والشوك والسكاكين.. كل ما تعودت عليه واطمأنت إليه؛ وبخاصة (وابور البريموس). فضلت دائماً التوصية بتخزين الأرز والمكرونة والسمن البلدية.. بحيث تكون جاهزة للسفر معنا، فتوفر عليها وعلى ابنتها وحفيدتيها زيارة الأسواق عند الوصول للمصيف.
تُذكرني رفيقتي الأخرى.. بأنهما – مع شقيقتها الكبيرة ولسعادتهن – كن يرتدين ملابس البحر.. تحت ملابس الخروج، التي تعتزمن السفر بها.. مع الحقائب والزكائب والحمالين والمساعدات والمساعدين، أي ضمن الفوج الأول من طلائع العائلة.. الطلائع المقرر لها السفر في قطار الصحافة، الذي كان يغادر محطة مصر الساعة الثالثة صباحاً.
يا للفرحة! كل هؤلاء يسبقون الكبار، فيرتبون المكان قبل وصولهم، وقد يكون من نصيبهم «غطسة».. في البحر قبل وصول العائلة، وبالتأكيد قبل نزول المصيفين إلى الشاطئ.. في هذا الصباح الباكر.
كنا ثلاثة، تخلت عنا رابعتنا.. عندما استجابت إلى دعوة الداعي – قبل شهور قليلة – فقررت الرحيل من هذه الدنيا. أجمع ثلاثتنا على أن المناسبات التي كانت تجمعنا بالبهجة كثيرة؛ منها مثلاً سبت النور من كل عام. تأتي بائعة البيض يوم الجمعة.. تحمل سبتاً مليئاً بالبيض، تشتري أمي أكثره أو كله. يسلق قبل النوم.. لنستيقظ صباح السبت مبكراً، ونباشر عمليات التلوين والرسم. كثيراً ما كنا نرفض – تدللاً – أكل البيض وقد تلون. أو نريد لليوم أن يطول بنا.. في صحبة البيض الملون.
ذكَّرتني ابنة أختي بمناسبات عائلية.. مثل ليلة النصف من شعبان، وليلة الاحتفال بمولد النبي، وليلة القدر.. وكلها مناسبات البطل فيها أمي؛ بإبداعاتها وتنويعاتها في اختيار الضحايا من الطيور والدواب.. لأغراض «التوسعة» والتوزيع. ناهيك عن ليلة عيد الفطر.. حيث تعبأ جميع الإمكانات البشرية والمادية، لتوضع تحت تصرفها لإعداد كعك العيد. ليلتها يتولى الصغار تنفيذ مهمة رمزية.. وهي حماية صاجات الكعك في الطريق إلى الفرن، ومن الفرن للبيت.. محمولة على رأسي الشغالتين سيدة وفاطمة.
تذكرنا أيضاً ليلة سهر وسمر لا تنسى، إنها ليلة تحويل أقماع الزبدة الجاموسية – الواردة إلينا من الريف – إلى سمنة بلدية. تتخلل السهرة وجبات اختيارية.. من البيض المقلي في «المورتة»، التي جرى نزعها من فوق سطح السمنة الساخنة.. قبل أن تبرد. لم يفت على أمي – في اليوم التالي – أن يكون الساندويتش اليومي – الذي تعودنا على حمله يومياً.. مع كتبنا وكراساتنا – وقد خلا من القشدة البلدية بالسكر، لتحل محلها «المورتة«.
كانت طفولة ممتعة. عبارة رددناها مراراً، قبل أن يعود كل منا إلى بيت لا طفل فيه.. كبير أو صغير، ولا مناسبة تجمعنا وإياهم.. إلا ما ندر.
نقلاً عن «الشروق«

شارك هذه المقالة