جميل مطر
أعتقد أنني كنت بين أوائل الذين تفهَّموا رد فعل شعب كندا، على ما خصَّهم من دبلوماسية الهزل والاستخفاف.. التي يمارسها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب. بدون شك أساء لنفسه، ولكن الأهم أنه أضاف مادة جديدة.. إلى معلومات الذين يتابعون بكثير من القلق المسيرة الانحدارية.. لسمعة الولايات المتحدة ومكانتها. تفهَّمت رد الفعل، فقد عشت هناك تلميذاً ناضجاً.. اختلط بتلاميذ آخرين، ومدرسين أغلبهم تستشيرهم الدولة.. قبل اتخاذ قراراتها؛ يتنقلون دوماً بين حرم الجامعة في قلب مدينة مونتريال، ومقار أجهزة السياسة والحكم في قلب العاصمة أوتاوا. أتذكَّر أننا كثيراً ما ناقشنا – في صف نظريات صنع القرار – مشروعات قرار أخذت طريقها فعلاً.. إلى برلمان الدولة أو إلى إدارات التنفيذ.
كنت في ذلك الحين.. الطالب الثاني في ترتيب الطلاب الأكبر عمراً. يكبرني ويتقدمني في الترتيب إعلامي كبير في قناة تلفزيونية شهيرة. كثيراً ما أثار الوضع عندي شجوناً وتأملات، إذ كنت دائماً منذ المرحلة الابتدائية، وحتى شهادة التخرج من الجامعة المصرية.. التلميذ الأصغر سناً. كنت أيضاً واحداً من ثلاثة، لم يبلغ أي منهم سن الرشد، مرشحين للتعيين ملحقين دبلوماسيين.. في الدفعة الأكبر عدداً حتى ذلك الحين (48 مرشحاً). عُيِّنت وعمري يتجاوز الحادية والعشرين بأيام معدودة، واستلمت عملي بسفارة مصر في نيودلهي.. وقد تجاوزت الحادية والعشرين بخمسة شهور. في الحالتين، حالة صغر السن وحالة كبره، أظن أنني حصلت على مكانة متميزة بين الزملاء.. من التلاميذ بنين وبنات، ومعاملة أكثر حرصاً وانتباهاً.. من المعلمين والأساتذة.
كان من حُسن حظي.. وهو الحظ الذي لم يفارقني في كل تلك الأوقات، أنني – ومنذ اليوم التالي لانضمامي إلى كلية الدراسات العليا في علوم السياسة في جامعة ماكجيل في مونتريال – زاملت ثم صادقت.. صداقة حميمة، الشاب علي الدسوقي، الطالب المجتهد، ثم المدرس والأستاذ، وشريكي في مركز غير حكومي لدراسات المستقبل، ثم المفكر والكاتب المشارك.. في كتابنا عن النظام الإقليمي العربي.
ومن حظي الطيب، أنني حصلت على تجربة لا تتكرر.. عن دراسة نظريات صُنع القرار السياسي على يد أستاذ مبتكر لإحدى هذه النظريات، وقد طبقناها معاً على دراستي عن صُنع قرار الحرب في مصر في عام 1967.
حصلت أيضاً على فهم أعمق للنظام السياسي الصيني. كانت متعة لا تعادلها متعة.. تطبيق ما علَّمني إياه الأستاذ الروماني الجنسية «سام نوموف».. عن أصول ونشأة الشيوعية الماوية وعن نظرية الحرب الدائمة، وضرورتها لحكم نظيف ومثمر.. وإن غير مستقر. علَّمني أيضاً – وعلى امتداد السنوات الثلاث – الأستاذ الهندي «نايار».. ألا يقدم حدث أو تطوير وقع في أي دولة، لم يكن وراءه غرض.. هو الأسمى والأخطر، وأقصد علاقته المباشرة بالأمن القومي للوطن. الأمن القومي كان – حسب رأيه – وراء معظم الثورات الكبرى في كلا العالمين.. المتقدم والناهض، ولولا التهديد المباشر له.. ما حدث التقدم ولا وقع التطوير.
أيام التلمذة المتجددة، صقلت عندي مواهب كانت مدفونة؛ ربما لم ينتبه لها المدرسون العظام في سنوات تلمذتي المبكرة. اعتمدت – ولا شك – على مخزون هائل من تجارب عملية.. في الهند والصين وإيطاليا وشيلي والأرجنتين. عشت في كل هذه البلاد، أتمنى لو كانت الدولة المصرية سمحت لي بالاستفادة من منحة دراسية.. منحتها لي جامعة كولومبيا – وأنا حديث الوصول للهند – كم كنت استفدت واستفادت الدولة.. لو سبقت الدراسة العليا تعييني بالخارج. ومع ذلك كم كنت سعيداً وأنا أتطوَّع في قاعة الدرس.. بتقديم أمثلة واقعية وعملية ،على ما يتاح لنا معرفته من نظريات سياسية؛ وبخاصة في مجالات التنمية، وصُنع القرار، والنزاعات الدولية.. نشوبها كما تسويتها.
نعم عدت تلميذاً وإن أكبر عمراً. وجدت الوقت لأشارك في بعض أو أكثر اجتماعات منظمة الطلبة العرب، وأغلبها كان في الولايات المتحدة. نجومها المصريون في ذلك الحين سعد الدين إبراهيم وأسامة الباز وعلي الدسوقي (علي الدين هلال) وكمال الإبراشي. وجدت وقتاً آخر لأقضيه في صحبة مجموعات «هيبية».. هؤلاء الذين ارتدوا – بلا خجل – البنطلونات الجينز، وأطالوا شعورهم وأظافرهم وناقشوا أموراً بفجاجة، ورغم ذلك حافظوا – قدر الإمكان – على عدم إيذاء مشاعر الغير، ونشروا فكر وممارسات التعامل السلمي في النزاعات. قدَّمني إلى مجموعة منهم شاب من بورما.. نجل سيدة عظيمة المكانة في بلده، تمرَّد عليهما.
كانت فترة غنية بالعلاقات والتجارب الحياتية. حملت معي من الأرجنتين رقم هاتف مصري مغترب.. صادرت حكومتنا أمواله وممتلكاته، فراح يعيش في كندا معلماً. أما خاله فلم يجد لنفسه عملاً، وقد تقدَّم به العمر وزادت حاجته إلى المال، إلا حارساً ليلياً لأحد الجراجات الكبرى في المدينة. كنا – زوجتي وأنا – ندعوه لتناول وجبة ساخنة بين الحين والآخر. بالمناسبة وفي يوم تخرجي، وجهت الدعوة لزوجتي والطفلين سامر ونسرين، لتناول عشاءً فاخر.. في مطعم ذاعت شهرته في صنع وشواء اللحم. كانت ليلة عاش الطفلان يتذكرانها لسنوات غير قليلة. عاش الطفلان ضمن أسرة حرَّمت على نفسها – خلال سنوات الدراسة – تناول اللحم المشوي في المحال العامة.. تقشفاً وحافزاً. حدث هذا بالرغم من أن الجامعة كانت قد خصصت لي مكافأة مالية – قدرها 100 دولار – نظير تدريس مادة الشرق الأوسط لطلاب المرحلة الأولية.. في برنامج العلوم السياسية.
أيام بمشقاتها وإنجازاتها.. متعة. أتذوَّق إلى يومنا هذا متعتها، بمقارنات أجريها مع أيام أخرى.. اخترت العيش فيها، أو فرضها الواجب. أظن أنني ربما أحسنت توظيف أيامي.. حتى صارت في مجملها – حسب نظرتي إليها – سلسلة من متع، تتخللها حلقات قليلة بل ونادرة، تأتي مغلفة بمشاق أو بمرض طارئ، أو بمشكلات عمل.. أغلبها تافه، أو تأتي كعثرات طفل بدأ يمشي، وفي أثرها يحتار بين أن يبكي أو يضحك.
أما أكثر حلقاتها.. فحلقات تأتي معلَّبة في علب كعلب الفرح وهدايا الأحباب، أو تأتي دافئة كأحضان الشوق، وشعر نزار. أو تأتي فائرة أو ثائرة.. كما في أحلام خطيب وخطوبته، أو تأتي ناعمة نعومة كلمات العاشقة إنجريد برجمان.. في فيلم كازابلانكا، الذي عُرض لأول مرة.. خلال الحرب (العالمية الثانية 1939-1945)، وترك علامات صمدت إلى يومي هذا.
هي الحياة، أليس كذلك!
نقلاً عن «الشروق»