مصطفى كامل السيد
خطر إسرائيل على أمن الدول العربية.. لم يعد مجرد أطروحات في خطاب جماعات القوميين العرب، ولكنه واقع ماثل.. وتجربة يومية في غزة والضفة الغربية، وسوريا ولبنان واليمن. ومع ذلك لا يبدو أنه يؤخذ على محمل الجد؛ لا على المستوى العربي الشامل أو على مستوى كل دولة عربية على حدة. وهو يؤخذ على محمل الجد.. عندما تحتاط الحكومات العربية ضده بالفعل، وليس بمجرد القول.. بالانتقال من خطاب هذه الحكومات.. الحافل بعبارات التنديد والاستنكار لما تقوم به إسرائيل إلي خطاب يعكس الفعل ويمهد له.
والفعل الوحيد المتوقع في مثل هذه الظروف أن تستعد لمواجهة هذا الخطر.. عندما يقترب من حدودها؛ سواء بجهودها الجماعية، أو حتى وهذا أضعف الإيمان بترتيبات تحالف مع من يمكن أن يقف حقيقة.. إلى جانبها.
ولا يمكن أن يكون هذا الفعل ممكنا أو محتملاً.. لا في الحاضر ولا في المستقبل، إذا ما استمرت الشعوب والحكومات العربية أسرى للأوهام.. التي استندت إليها مبادرات إقامة علاقات سلمية.. متعددة المجالات مع إسرائيل. هذه المبادرات التي بدأها الرئيس السادات في مصر مع زيارة القدس في 17 نوفمبر 1977، ثم توقيع ما سُمي بمعاهدة سلام معها في واشنطن في مارس 1979، وتبعته بعد ذلك منظمة التحرير الفلسطينية في سبتمبر 1993، ثم الأردن في العام التالي.
ثم تسارعت هذه المسيرة في 2020 بالإمارات والبحرين والمغرب والسودان، بينما دخلت دول عربية أخرى في اتصالات وعلاقات غير رسمية مع إسرائيل. هذه العلاقات الرسمية وغير الرسمية.. لم تتوقف حتى الآن، على الرغم من بشاعة جريمة الإبادة الجماعية.. التي ترتكبها إسرائيل في الأراضي الفلسطينية، واحتلالها مجدداً لأراضٍ عربية في سوريا ولبنان، وتواصل اعتداءاتها على هذين البلدين، وامتداده مؤخراً إلى الدوحة عاصمة قطر.
التفسير الوحيد لاستمرار هذه العلاقات.. رغم كل ما جرى، هو استمرار الاعتقاد بأن العدوانية الإسرائيلية.. هي عرَضٌ مؤقت، وأن الحكومة الإسرائيلية لا بد أن تعود إلى صوابها، وتستأنف علاقات مسالمة مع الدول العربية، وهذا هو الوهم الرئيسي الذي ينبغي التخلي عنه.. إذا ما قُدِّر للعرب أن يفيقوا من آثار النكبة الثالثة. ويستند هذا الوهم الرئيسي.. إلى عدد من الأوهام الفرعية التي تغذيه، وتجتذب له قطاعات مهمة من الرأي العام العربي. ويستعرض هذا المقال عدداً من هذه الأوهام، ويدعو للتفكير في بدائل أخرى لمواجهة الخطر الإسرائيلي الراهن والمقبل.
أول الأوهام: السلام مع إسرائيل ممكن.. عندما يزول الحاجز النفسي الذي شكل عقبة أمامه
كان أول من ردَّد هذا الوهم هو الرئيس الراحل أنور السادات.. صاحب الخطوة الأولى في تطبيع العلاقات مع إسرائيل. ولتبديد هذا الوهم، قام بزيارته إلى القدس، ودخل مع حكومتها في مفاوضات.. انتهت بتوقيع اتفاق كامب ديفيد أولاً.. في سبتمبر 1978، ثم – وبعد مفاوضات لاحقة شارك فيها الرئيس الأمريكي الراحل جيمي كارتر – تم التوصل إلى ما سُمي بمعاهدة سلام بين الحكومتين في مارس 1979.
والجدير بالذكر، أن الذي اعترض على مبادرات الرئيس.. لم يكونوا من غلاة القوميين العرب، ولكنهم كانوا من قيادات وزارة الخارجية المصرية؛ تلك الوزارة التي ضمت أفضل خبراء السياسة الخارجية في مصر، عندما سمع وزيران للخارجية المصرية.. بعزم السادات على زيارة القدس، قدما على الفور استقالتيهما؛ وهما المرحوم إسماعيل فهمي – وزير الخارجية حتى نوفمبر 1977 – ومحمد رياض.. الذي كان وقتها وزير دولة للشئون الخارجية. ثم استقال المرحوم محمد إبراهيم كامل.. الذي خلف إسماعيل فهمي في وزارة الخارجية في سبتمبر 1978، أثناء مفاوضات كامب ديفيد.. بعد أن تحقق بنفسه ما تؤدي إليه هذه المفاوضات.
وعلى الرغم من استمرار فريق وزارة الخارجية في كامب ديفيد – القريبة من واشنطن – في متابعة المفاوضات، إلا أن أعضاءه – وقد لاحظوا أن النص النهائي الذي قدمه الوفد الأمريكي للمصريين والإسرائيليين يقيد السيادة المصرية، ولا يحقق للفلسطينيين تطلعهم لممارسة حق تقرير المصير، ويمكن أن يسبب عزلة لمصر وسط العالم العربي – قد أعربوا عن تحفظاتهم هذه للرئيس السادات.. الذي لم يقتنع بها، ولذلك قاطعوا هم حفل توقيع هذه الاتفاقية في البيت الأبيض.
هؤلاء الدبلوماسيون – أصحاب الثقافة والخبرة الواسعتين – هم المرحوم د. نبيل العربي، والمرحوم أحمد ماهر والمرحوم أسامة الباز والسفير عبد الرءوف الريدي، وأحمد أبو الغيط.. الذي كان سكرتيراً لوزير الخارجية – وذلك حسب رواية المرحوم دكتور نبيل العربي. ومع اعتراضهم على نص اتفاق كامب ديفيد، ذكر نبيل العربي أن هذا الاتفاق.. كان مختلفاً عن نص معاهدة السلام التي جرى التوقيع عليها بعد ذلك بستة شهور في واشنطن. فوفقاً له، لم ينص اتفاق كامب ديفيد.. على التطبيع مع إسرائيل.
السلام مع إسرائيل ليس ممكناً، لأن الرأي العام في إسرائيل.. لا يعترض على توسع إسرائيل في الدول العربية، والكنيست الإسرائيلي صوَّت منذ أسابيع.. رفضاً لإقامة دولة فلسطينية، وإذا كانت هناك مظاهرات معارضة لحكومة نتنياهو.. فهي تعترض فقط على أن استمرار الحرب في غزة، يعوق أي محاولة لاستعادة الأسرى الإسرائيليين لدى «حماس»، ولكن المشاركين فيها.. لا يعترضون على مواصلة الحرب بعدها.
صحيح.. كان يقال إن هناك معسكر سلام في إسرائيل، يقوده حزب العمل؛ الذي كان كل من إسحاق رابين وشيمون بيريز من بين قادته، والأول هو من وقع اتفاق أوسلو مع الفلسطينيين، والثاني له كتاب عن علاقات السلام بين إسرائيل والدول العربية. ومع ذلك تشير الدلائل إلى أن أكبر توسع للمستوطنات في الضفة الغربية.. تم في ظل حكومات حزب العمل. وعلى أي الأحوال، أصبح وجود حزب العمل وأحزاب اليسار الإسرائيلي – القريبة منه – هامشيا للغاية.. على مسرح السياسة الإسرائيلية.
أوهام أخرى:
ومن الأوهام الأخرى التي لا يتسع هذا المقال لتفصيلها.. أن الولايات المتحدة وسيط أمين؛ يُعتد به في البحث عن تسوية سياسية منصفة.. لكل الأطراف في الشرق الأوسط. يكفي هنا استرجاع وصف الرئيس الأمريكي السابق جو بايدن نفسه.. بنفسه.. على أنه صهيوني، وتجنب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أن يذكر اسم فلسطين.. في أي حديث له عن الحرب الجارية في الأراضي الفلسطينية، وتمسكه حتى الآن بتحويل غزة إلى منتجع سياحي، فضلاً عن اعتراض الإدارة الأمريكية في مجلس الأمن على أي مشروع قرار يطالب بوقف الحرب في غزة، ناهيك عن الحجم الهائل من المعونات العسكرية والاقتصادية التي تقدمها الحكومة الأمريكية لإسرائيل.
صحيح، أن هناك تحولاً في موقف الرأي العام الأمريكي من إسرائيل، ولكن سيقتضي الأمر وقتاً طويلاً حتى ينتج هذا التحول تغيراً في مواقف الكونجرس والإدارة الأمريكية.
وطبعاً هناك الوهم الأكبر، وهو أن العرب يمكن أن يعولوا على ما يُسمَّى بالمجتمع الدولي.. لينوب عنهم في حل مشاكلهم مع إسرائيل، أو أي قوى أخرى مناوئة للمصالح العربية.
ما لم تشعر أطراف هذا المجتمع الدولي.. بأن مصالحها مهددة في الوطن العربي، فلن تبذل أي جهد فعال للتعويض عن إخفاق العرب.
ما العمل؟
أنصار التطبيع.. يجادلون بأن اتفاقات السلام مكنت مصر من استعادة سيناء، ومكَّنت الفلسطينيين أن يكون لهم سلطة تمثلهم في رام الله. لا يود كاتب هذا المقال الدخول في حوار حول ماذا كان ممكناً في أكتوبر 1973 – قبل تعويل الرئيس السادات على هنري كيسنجر ليقوم بالوساطة مع إسرائيل – وحكمة نصوص اتفاقيتي منع الاشتباك في 1974 و1975، ولا تقييم زيارة القدس في 1977. ولكن الواقع ماثل أمامنا.. من فائض القوة الإسرائيلية، في مواجهة الانقسامات العربية.. وهو ما يُغري إسرائيل لاستمرار استباحتها لكل الدول العربية، التي يواصل بعضها علاقات متنوعة مع إسرائيل.. كما لو كانت دولة صديقة.
التخلي عن هذه الأوهام، لا يعني الاستعداد الفوري.. لخوض حرب ضد إسرائيل؛ ولكن هناك فارق هائل بين التعامل مع إسرائيل، على أنها دولة كسائر الدول تقيم معها الحكومات العربية.. العلاقات المعتادة مع الدول الأخرى في جميع المجالات، أو أن تنظر الحكومات العربية لها.. على أنها عدو ينبغي التحوط ضد اعتداءاته.
هذه النظرة الأخيرة تقتضي قطع العلاقات السلمية معها في جميع المجالات من دبلوماسية واقتصادية وأمنية وعسكرية وثقافية، وتقتضي الإعداد لبناء القوة العربية المسلحة بالعلم والتكنولوجيا، والاقتصاد المتنوع، والنظام السياسي المفتوح للجميع.. على قدم المساواة، والدخول في علاقات مع الدول الأخرى – كبيرها وصغيرها – على أساس تعاوني.. يعزز من القوة العربية. وليذكر العرب أن نجاحهم في مواجهة التهديد الإسرائيلي.. كان مرتبطاً بتضامنهم الفعال، كما ظهر ذلك في مؤازرتهم لمصر عندما تعرَّضت للعدوان في أكتوبر 1956، أو عندما خاضت مع سوريا حرب أكتوبر في 1973.
نقلاً عن «الشروق»