أحمد الجمال
في المقال المنشور هنا يوم 15 يوليو 2025 أشرت إلى مسألة أراها عويصة، وهي تحقيق العدالة الاجتماعية أو الحماية الاجتماعية – سمِّها كما شئت – أثناء تطبيق آليات الاقتصاد الحر وقوانين السوق، التي أضحت – عند كثير من المحللين والسياسيين – الحل الأوحد لمشاكل الوطن، وقد أجَّلت الكتابة عنها لمقال لاحق.
وهنا أشير إلى الكتاب المهم الذي ألفته الدكتورة زينب أبو المجد بالإنجليزية، وترجمه الأستاذ المتمكن أحمد زكي عثمان إلى العربية، ليصدر عن المركز القومي للترجمة برقم 2968 بعنوان هو «إمبراطوريات متخيلة.. تاريخ الثورة في صعيد مصر». والكتاب في الأصل رسالة دكتوراه قدَّمتها الأستاذة زينب لجامعة جورج تاون الأمريكية، وصدر بالإنجليزية عن دار نشر جامعة كاليفورنيا عام 2013، وعنوانه الأصلي «Imagined Empires A History Of Revolt In Egypt».
وينقسم الكتاب إلى خمسة فصول ومقدمة عامة وخاتمة. وحسبما أنقل من مقدمة المترجم، افإنه يذهب إلى أن «أبو المجد تتناول في هذا الكتاب موضوعاً.. عَزَّ تناوله في الكتابات التاريخية المصرية؛ سواء المكتوبة بالعربية أو بأية لغة أجنبية أخرى، فتجادل أستاذة التاريخ في جامعة أوبرلين الأمريكية.. بأن للصعيد رواية جد مختلفة – مع كل الإمبراطوريات التي تعاقبت على غزو مصر – رسمية وغير رسمية، منذ القرن السادس عشر؛ أي العثمانيين والفرنسيين وإمبراطورية محمد علي، ثم الهيمنة البريطانية غير الرسمية، وأخيراً الاحتلال البريطاني الرسمي منذ عام 1882. وتمضي في محاولة لإعادة سرد التاريخ البديل.. الذي يقدمه الصعيد، من خلال التنقيب في مئات الوثائق منذ القرن السادس عشر، كالمكاتبات الرسمية وقضايا المحاكم الشرعية، وسجلات مضابط الأحكام، لتكشف المؤلفة – بقراءتها لتلك الوثائق – عن أن الإمبراطوريات الاستعمارية.. التي ارتحلت إلى جنوب مصر، عمدت إلى تهميشه بشتى الطرق، ودعمت تلك الإمبراطوريات.. فكرة أن مصر دولة موحدة؛ ومن ثم ينبغي إخضاع الصعيد بالقوة، تحت سيطرة النخبة الشمالية المتنعمة برضاها، وأسفرت تلك السياسات عن تدمير متلاحق.. لمجتمعات الصعيد، فجرى إهمال الزراعة والري، وتعددت الأزمات البيئية كتفشي أوبئة الطاعون والكوليرا».
وبالطبع، فإن الاختلاف وارد.. مع أفكار المؤلفة، بما في ذلك ما في جوف بعض السطور.. حول ما أسميه «فكرة أن مصر دولة موحدة». ووارد مع توجهاتها السياسية، إلا أن ذلك الاختلاف لا ينفي ولا يقلل – بحال من الأحوال – من جهدها العلمي الفذ. ثم إن ملاحظة أخرى يجب ذكرها.. تتصل بأن هناك من سبق الدكتورة زينب أبو المجد.. في التصدي لكتابة وتحليل تاريخ ثورات الفلاحين في الصعيد والوجه البحري، وهو الدكتور علي بركات، وخاصة كتابه «القرية والسلطة في مصر في القرن التاسع عشر» وقد صدر في سلسلة «تاريخ المصريين» برقم 307.
وأعود إلى ما سميته المسألة العويصة، لأجد أن الدكتورة زينب أبو المجد.. قد رصدت وحللت أوضاع المصريين – خاصة في الصعيد – حيث يمكن أن نعتبره «حالة الدراسة».. في ظل تحول الاقتصاد المصري إلى اقتصاد سوق، وتعود بنا إلى عصر سعيد باشا – نجل محمد علي باشا – حيث تولى سعيد حكم مصر في 24 يوليو 1854، وأظهر التزاماً قوياً بفتح الأسواق المصرية أمام التجار الأوروبيين، وقرر تبنِّي سياسة ليبرالية.. منفتحة في جميع مجالات الاقتصاد، واستهلها بميدان التجارة. وفي ذلك المسعى، أمر سعيد باشا وحث موظفي الحكومة في أنحاء القطر المصري.. على التطبيق الصارم لاتفاقيات التجارة الحرة القائمة، وتيسير نشاطات المشروعات الأجنبية.
وتشير المؤلفة إلى نص القرار – الذي أصدره الباشا سعيد إلى موظفيه – الذي من بعده شق التجار الأوروبيون.. في عصر الأسواق العالمية المفتوحة، طريقهم إلى قنا في أقصى جنوب مصر، لتبدأ ملامح تلك المسألة العويصة تتشكل؛ بحدوث أقصى وأقسى ألوان وأنواع الاستغلال والتنكيل بالمصريين.. على يد كبار الملاك الزراعيين، وكبار تجار الغلال، وأيضاً المغامرين الذين قدموا للإثراء.. وفي ذلك تفاصيل أحاول قراءتها في مقال مقبل.
نقلاً عن «المصري اليوم»