سمير مرقص
«إن الأمل، عندما لا يرتبط بالإيمان، ولا يتم لجمه بحقائق التاريخ، يصبح قيمة خطرة؛ فهو لا يهدد فقط أولئك الذين يتبنونه ويثقون به، بل يهدد أيضاً كل من يقع في نطاق أوهامهم».
وردت هذه الكلمات في نص «استعمالات التشاؤم» للفيلسوف البريطاني المحافظ «روجر سكروتون» (1944 ــ 2020)، اقتطفها – وقدَّم بها عضو مجلس سياسات الدفاع الأمريكية وخبير الجغرافيا السياسية «روبرت ديفيد كابلان (73 عاماً)، كتابه الجديد المثير للتفكير والجدل «أرض خراب: عالم في أزمة دائمة» Waste Land: A World In Permanent crisis – كي يحذر قارئه من هول الإفراط في التفاؤل.. غير المستند إلى مقومات جعله واقعاً، إذ إنه يصبح في هذه الحالة.. أملاً وهمياً.
هذه الصيحة التحذيرية التي يطلقها «كابلان» – عبر التمهيد المقتطف الذي تصدَّر كتابه الأخير – ينطلق من رؤية.. مفادها أن العالم قد دخل إلى نفق مظلم بسبب الحروب، والصراعات، والتدهور المناخي، والتكنولوجيات.. التي قلبت حياة البشر رأساً على عقب، والفقر، واللامساواة التاريخية.. غير المسبوقة، والأوبئة. فلقد انحشر العالم – في الربع الأول من القرن الواحد والعشرين – في هذا النفق، الذي جعل منه «أرضاً خراباً»؛ حسب القصيدة الخالدة للشاعر الأمريكي/البريطاني – الحائز نوبل في الأدب عام 1948 – ت. س. إليوت (1888 ــ 1965)؛ ترجمها لويس عوض (1915 ــ 1990) في ستينيات القرن الماضي.
ينطلق، إذن، «كابلان».. من واقع عالمي مأزوم؛ فالجغرافيا التي كانت مصدراً للقوة، ومنحت كثيراً من الإمبراطوريات والدول – تاريخياً – الهيمنة، أصبحت موضعاً للنزاع الحاد من قبَل الكثيرين؛ القوى القديمة، والجديدة الصاعدة، والسلطويات الإقليمية، والجماعات الإثنية، والحركات الشعبية، والقوى اللانظامية. ذلك لأن القدرة على التوسع – الجغرافي والعسكري، ومن ثم الاقتصادي – التي كانت تمارس تاريخياً، وتستأثر بها قوى بعينها، أصبحت تواجه بالكثير من التحديات والتقاطعات. في هذا المقام، يبين «كابلان» أن القوى، القديمة والجديدة، باتت تتحرك في فضاء عالمي مشبع، ومكتظ بالتشابكات المختلفة، لا يتيح مساحات للمناورة.. إلا عبر دفع أثمان مكلفة على جميع المستويات. ما يجعل الجميع «منهكاً»؛ الدول الكبرى والمتوسطة والصغرى.
لذا لم تعد الأزمات وقائع، أو أزمات طارئة. بل أصبحت حالة مستدامة. إذ ما يلبث يتعرض إلى أزمة.. حتى يقع في أخرى؛ حيث تتقاطع الأزمات وتتشابك، ليصبح العالم عالقاً في شبكة من الأزمات التي لا تنتهي؛ من صراعات مناطقية متكررة، بدلاً من الحروب العالمية الكلية، وصعود قوى إقليمية لملء فراغات القوة.. التي تتركها القوى الكبرى لسبب أو لآخر… إلخ؛ ما حول العالم بالفعل إلى أرض خراب .
لم تعد الجغرافيا السياسية – في نظر «كابلان» – تلك الجغرافيا التضاريسية والخرائطية.. التي ترتبط بالمكان/الموقع الذي تتم السيطرة عليه.. بالقوة المادية فقط، بل صارت الجغرافيا السياسية أكثر تركيباً؛ ذا طابع شبكي عابر للحدود. فالعولمة المالية ذات التدفقات التريليونية «الأثيرية».. التي تدار من قبل الشركات المتعددة/المتعدية الجنسية العابرة للقارات، والبورصات وبيوت المال والأسهم من جهة. والعمليات المشبوهة للسيطرة على الموارد.. عبر شركات الحرب والجماعات اللانظامية من جهة أخرى، قد صارتا حاكمتين للجغرافيا السياسية في هذا العصر. لذا بات من السهل أن تتحول أي شرارة في منطقة ما.. إلى زلزال عالمي يتمثل. على سبيل المثال لا الحصر، في: توقف/تعثر سلاسل التوريد، موجات هجرة، انهيارات بيئية، كوارث حياتية، توترات نووية… إلخ.
إنها مرحلة تاريخية تماثل – في نظر «كابلان» – المرحلة الفوضوية التي عاشها العالم بين الحربين العالميتين.. في الربع الثاني من القرن العشرين (من 1918 إلى 1939)، ويستحضر هنا نموذج جمهورية فايمار، وهي الجمهورية التي نشأت في ألمانيا بديلاً للحكم القيصري.. في ذاك الوقت؛ كنتيجة مباشرة لهزيمتها في الحرب العالمية الأولى. فبالرغم من بعض المزايا التي اتسم بها هذا النموذج، فإن الفوضى كانت عارمة.. ما مهَّد للنازية. حيث تراجعت القوى الكبرى، وهزلت المؤسسات الدولية، وتآكل دورها في الواقع، وتزايدت الفجوة بين النخب السياسية والقواعد المواطنية… إلخ. كما فاقمت التكنولوجيا الرقمية – بالرغم من مزاياها الكثيرة – من الفوضى، لأنها سارعت من تفشي الأزمات، والإحساس بها.. من جانب، كذلك التلاعب بعقول ومشاعر الأفراد/المواطنين، ومن ثم التحكم في خياراتهم، والحيلولة دون بناء موقف جماعي .. حيال الفوضى ومن يقفون خلفها.
وعليه، لم تعد الجغرافيا السياسية في وقتنا الراهن، هي الجغرافيا السياسية التي ألفناها في الماضي. فلقد طالها تحول جذري.. فيما يواجهها من مفاهيم، ولطبيعة القوة التي يستخدمها اللاعبون المختلفون.. عالمياً وإقليمياً. فإضافة للجيوش والسلاح، أصبح لزاماً على اللاعبين المختلفين.. امتلاك المعرفة والقوة الرقمية، أخذاً في الاعتبار.. أن الجغرافيا السياسية في الزمن الرقمي، لا تعترف بالنفوذ الجغرافي الميداني الثابت.
بهذا المعنى، يمكن القول إن هناك تشكلاً جديداً.. قد لحق بالعالم اليوم، يعكس انتقال القوة والنفوذ والهيمنة.. من الخرائط التقليدية – بالطبع لا يوجد مانع من توظيفها ـ إلى الخرائط الرقمية. فقد أسهم هذا التحول في تجاوز النظام العالمي.. الذي تأسس بعد الحرب العالمية الثانية. نعم، لكنه ليس تجاوزاً تاماً ـ حتى الآن ـ لأنه يتعرض لتآكل داخلي متدرج؛ وهو ما يفسر بقاء المؤسسات الدولية قائمة حتى الآن، إلا أنه بقاء هيكلي.. غير قادر على تفعيل الاتفاقات والمواثيق الدولية، أو أن يحقق العدالة والحسم.. في كثير من القضايا والصراعات خاصة. ويزيد «كابلان» بأن هذا التآكل، لم يصب فقط المؤسسات، بل قدرة الأرض على التحمل من ناحية. وقدرة الإنسان/المواطن من ناحية أخرى. من هنا طال «الخراب» ليس الأرض.. فقط، بل الإنسانية أيضاً.
وبعد، تتمتع أطروحة «كابلان»، بأنها تتناول ما يتعرض له الإنسان من ضغوطات.. بفعل الجغرافيا السياسية الجديدة، التي تمس ليس فقط متطلباته المادية، وإنما جوهر وجوده، ومعنى حياته. فعدم الاستقرار الميداني – الذي يقوم على إنهاك الأرض لمصلحة القلة الوحشية، يجعلها موحشة وقاحلة ومجدبة، ومعطوبة للأغلبية؛ فلا تعود الأرض تتيح لتلك الأغلبية حرية الحركة نفسها، ولا الموارد نفسها، ولا مستويات الحماية الطبيعية ذاتها. وبهذه النتيجة تصبح الجغرافيا عبئاً على الإنسان/المواطن، في الوقت الذي من المفترض فيه أن تكون آمنة من الخراب.
نقلاً عن «الأهرام»