أحمد عبدالمعطي حجازي
بالأمس القريب كان الكتاب يصدر في نحو ثلاثة آلاف نسخة، فيجد جمهوراً من القراء.. لا يقل عدده عن عدد النسخ المطبوعة، وكانت الطبعات الأولى من بعض الكتب تنفد.. فيعاد الطبع مرة، وأحياناً مرات. ولا شك في أن هذا الإقبال لم يكن ثابتاً دائماً، ولم يكن متاحاً بهذا الحجم لكل كتاب، وإنما كان متراوحاً؛ يزيد وينقص ويتأثر بمدى ما بلغه مؤلفه من الشهرة، وبما أثاره الكتاب من ردود الفعل عند قرائه، وما تركه من صدى.
وأنت تنظر في مؤلفات طه حسين، فتجد عدد الطبعات التي وصل إليها – تجد الطبعة التاسعة أو العاشرة في كثير منها – وتنظر في كتابه الشهير «الأيام».. الصادر عن «دار المعارف» في عام ألفين وسبعة، فتجد أنها الطبعة السبعون، وقريب من ذلك مؤلفات المشاهير الآخرين، المنفلوطي، والرافعي، وتوفيق الحكيم، ثم نجيب محفوظ، ويوسف إدريس. وفي العقود الأخيرة مؤلفات جمال حمدان، وخاصة كتابه «شخصية مصر» الذي صدر في ثلاث طبعات الأولى في «دار الهلال»، والثانية في السلسلة الشهيرة التي أصدرتها الهيئة المصرية العامة للكتاب.. حين كان يرأسها العزيز الراحل سمير سرحان، وكانت ترعاها السيدة الفاضلة سوزان مبارك، سلسلة «مكتبة الأسرة». والطبعة الثالثة في سلسلة «الهوية المصرية» في هيئة قصور الثقافة، وقد نفدت هذه الطبعات الثلاث، وظل القراء يطلبونه مما أغرى بعض الناشرين – في مصر ولبنان – بإصداره طبعات، لم يعلنوا فيها عن أسمائهم.
ونحن ننظرالآن في الوضع الذي صار فيه الكتاب في مصر، وفي الأقطار العربية الأخرى، فنجد للأسف الشديد أن الأمة – التي أرسل إليها الله النبي محمداً وخاطبها عن طريقه، فقال لها «اقرأ» – أصبحت لا تقرأ. وفي دراسة صدرت عن المركز العربي للتنمية، أن الوقت الذي يقضيه الطفل العربي في القراءة.. لا يزيد على ست دقائق في العام، يقرأ فيها ست صفحات. أما الشاب، فيتراوح ما يقرأه بين نصف صفحة ونصف كتاب في العام. والقارئ العربي بصورة عامة.. يخصص للقراءة في المتوسط عشر دقائق في العام، مقابل اثنتي عشرة ألف دقيقة، أي مائتي ساعة للقارئ الأوروبي!
كما جاء في دراسة أخرى.. أن كل عشريين عربياً يقرأون كتاباً واحداً في السنة، على حين يقرأ كل إنجليزي سبعة كتب، وكل أمريكي أحد عشر كتاباً، وفي التقرير السنوي الصادر عن مؤسسة الفكر العربي.. أن نسبة القراءة في البلاد العربية تدهورت بشكل مخيف، وهي حقيقة مؤكدة أستطيع أن أقدم عليها ألف شاهد. يكفي أن نعرف مثلاً أن السلسلة الشهيرة – التي كانت تقدمها هيئة الكتاب – وهي «مكتبة الأسرة» ،وكان عدد الكتب التي تصدرها يصل في المتوسط إلى نحو مائتين وخمسين كتاباً في العام، لم تعد تُصدر الآن شيئاً. وأن السلاسل التي كانت تصدر عن هيئة قصور الثقافة – بإشراف جرجس شكري – ومنها «ذاكرة الكتابة»، و«الذخائر» و «الهوية المصرية» وسلاسل أخرى، وصل عددها إلى ثماني عشرة سلسلة، كانت تجد من ينتظرها ويقتنيها كفت عن الصدور. معدل الالتحاق بالتعليم في مصر، وفي غيرها من الأقطار العربية، لا يزيد في نهاية سنوات الدراسة على نحو عشرين في المائة.. ممن يلتحقون بالمدارس، مقابل واحد وتسعين في المائة في كوريا الجنوبية، وثمانية وخمسين في المائة في إسرائيل!
ومع أن معظم الأطفال المصريين – الذين يبلغون السادسة من العمر يدخلون المدرسة – يبدأون الدراسة، فأكثرهم ينصرف قبل أن يكمل، والقليلون الذين لا تزيد نسبتهم على نحو عشرين في المائة يتخرجون.. وهم أنصاف أميين، لأن عدد المدارس لا يستوعب الجميع، وقاعة الدرس التي لا تتسع لأكثر من ثلاثين تمليذا، تتحول إلى ما يشبه علبة السردين بالسبعين أو الثمانين.. من التلاميذ الذين يُحشرون فيها حشراً، ويفرضون على المدرسين الذين يعجزون بالضرورة عن أداء رسالتهم، لأن الطاقة البدنية والذهنية التي يحتاج إليها التلميذ الواحد من معلمه.. كي يتلقى الدرس ويفهمه فهما جيداً ويراجعه مع المعلم ويصححه، أصبحت توزع على ثلاثة تلاميذ، وحين يجد المدرس أن الشروط التي يعمل داخل حدودها لا تمكنه من أداء رسالته.. مهما حاول، يهون عليه الإهمال، ويحول العجز المفروض عليه إلى مكسب يناله عن طريق الدروس الخصوصية، فضلاً عن أن معاملته لتلاميذه ميراث تلقاه هو نفسه، وهو تلميذ في المدارس والمعاهد التي تخرَّج فيها.. دون أن يكتمل إعداده لأداء الرسالة.
فإذا كانت هذه هي التربية التي تربى بها أجيالنا الجديدة، ونعدها لتقرأ وتكتب وتفكر وتبحث وتنتج في علوم العصر.. ما نحتاج إليه أشد الاحتياج لنواجه المشكلات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي نواجهها، ونحن نسعى لنلبي لهذه الملايين – التي تتضاعف كل يوم – ضرورات حياتها من الطعام والشراب، ومن الصحة والمأوى، ومن العلم والكرامة والحرية، ولننقذها من الوقوع في الفخاخ التي لايزال ينصبها لها المتاجرون بالدين في الداخل والخارج. وفي الدراسات الصادرة أخيراً، أن اجمالي ما ينتجه العرب من الكتب.. لا يزيد على واحد في المائة من الإنتاج السنوي في العالم، أما عدد السكان، فيتزايد، ويبلغ أكثر من خمسة في المائة، فليس أمام الجاهل من متعة يمارسها.. الا متعة إنجاب الأطفال الذين ينتظرهم مصير آبائهم؛ الجهل، والجوع، والمرض!
هذا الواقع المتدهور الذي وصل إليه الكتاب في بلادنا ووصلت إليه الثقافة بشكل عام.. تتحمل تبعاته جميعا وزارة التربية والتعليم، ووزارة التعليم العالي، ووزارة الثقافة، وأجهزة الإعلام والصحافة، والبرلمان بمجلسيه.
وقد أرجع السيد وزير الثقافة تراجع عدد الكتب المطبوعة.. إلى ارتفاع أسعار الورق والحبر، وهذا واقع ملموس نعرفه جميعاً، لكن السيد الوزير لم يلتفت لما هو أهم، وهو تدهور مستوى التعليم، وتدهور مستوى اللغة المستعملة – حتى في المجالات التي لا يغتفر فيها الوقوع في أخطاء أصبحت معتادة – وتقع في الصحف، والكتب، والإذاعات، والأوراق الرسمية.
… وسوف أفترض أن أسعار الورق والحبر انخفضت، هل يكون هذا كافياً ليعود المصريون للقراءة، ويُقبلوا على شراء سلعة لا يشعرون بالحاجة إليها؟
وإذا كانت لغتهم وثقافتهم لا تمكنهم من قراءة الكتاب المطبوع، هل تمكنهم من قراءة الكتاب الإلكتروني؟
ولا أجد في ختام المقالة كلمة يستحقها الكتاب، إلا الكلمة الأولى التي نزل بها الوحي : «اقرأ».
نقلاً عن «الأهرام«