Times of Egypt

أفتقدهم في رمضان 

M.Adam
زاهي حواس

زاهي حواس 

كل عام وأنتم بخير، ورمضان كريم علينا جميعاً.. بعيداً عن شر كل حاقد أو حاسد؛ من أصدقاء «ست» إله الشر عند الفراعنة.. هؤلاء الذين يحاولون دائماً تحويل حياتنا إلى نكد وجحيم، يحاربون كل نجاح ويصنعون من أنفسهم المريضة قيمة.. أبطال من ورق، بل إن الورق له قيمة دونهم! ونحمد الله أن هؤلاء أُغلق عليهم في رمضان مثلما أُغلق على الشياطين. 

وبعيداً عن هؤلاء هناك شخصيات جد رائعة كان لي معهم ذكريات جميلة، ولذلك فأنا أفتقدهم في كل وقت وزمان، خاصة في شهر رمضان المعظم. 

عمر الشريف 

كان عمر الشريف يصوم في شهر رمضان، ونتقابل على الإفطار. وكان له – رحمه الله – مواقف كثيرة بينه وبين ربنا سبحانه وتعالى! حدَّثني عمر عن تلك الليلة العصيبة التي مر بها في حياته، ففي منتصف الليل هاجمته أزمة قلبية.. كادت أن تودي بحياته. وجد عمر نفسه يرفع يديه وينظر إلى السماء، ويعاهد ربه بأنه إذا نجا من هذه الأزمة.. فسوف يقلع وإلى الأبد عن التدخين. وبالفعل برَّ عمر بعهده، ولم يكره في حياته بعد ذلك سوى رائحة السجائر.  

وعندما دعاه الفنان الدكتور أشرف زكي.. لكي يلتقي بطلاب أكاديمية الفنون، وكان عمر في ذلك الوقت بدأ يعاني من مرض الزهايمر. ورغم ذلك، استطاع عمر أن يلتقي بالطلبة ويتحدث معهم. وفي طريق العودة.. كان عمر يجلس إلى جواري، وأحس بضربات قلبه تتسارع.. فما كان منه طول الطريق سوى أن يردد «يا رب». 

 كان فناناً.. يحيا بقلب طفل، لا يحمل كرهاً أو حقداً لأحد. يحتد في بعض الأحيان من تصرفات البشر، لكنه يعود ويعتذر لمن احتد عليه. ظل متمسكاً بجنسيته المصرية، ولم يحاول أن يحصل على أي جنسية أخرى. وأذكر أنني ذهبت معه إلى السجل المدني.. لكي يقوم باستخراج بطاقة الرقم القومي، وعندما تسلمها كان سعيداً للغاية. رحم الله هذا الإنسان الرائع. 

أحمد رجب 

أحمد رجب.. هو أعز صديق مر بحياتي، كنا نتحدث عبر الهاتف يومياً. وقد حدث أن انقطعت عن الاتصال به لمدة أسبوع لسفري خارج البلاد، ولم أكن قد أخبرته.. فخاصمني! وحاولت أن أكلمه مرات ولم يرد! فذهبت إليه في منزله وفتح لي الباب خادمه، وقال لي الأستاذ لن يقابلك! فقلت له أخبره أنني لن أمشي حتى يقابلني. هنا خرج لي مبتسماً قائلاً: «ده مجرد إنذار علشان ما تعملش كده تاني».  

كنا نتقابل.. ومعنا المخرجة المبدعة ساندرا نشأت، التي كان يعتبرها مثل ابنته. كتب عني أحمد رجب كثيراً في نص كلمة، وكانت كل كلمة يكتبها.. تختصر مقالاً كاملاً. كان يعيش بقلب يملؤه الحب للحياة وللناس.. رغم انطوائه. ولن أنسى أنه وقف إلى جواري في وقت الشدة.. عندما انهالت عليَّ الكلاب المسعورة. ومدرسة أحمد رجب تُعتبر من المدارس الصحفية التي لن تتكرر. ولا أعتقد أن هناك كاتباً في عالمنا يستطيع أن يحاكي أحمد رجب.. في أسلوبه وعبقريته. رحم الله هذا الكاتب المبدع. 

أنيس منصور 

كان من المبدعين في حديثه، يضيف نكهة إلى أي نقاش. وكان صالونه الثقافي من أجمل وأرقى الصالونات الثقافية. سافرت مع أنيس منصور إلى العديد من البلدان حول العالم. وكان أول ما يفعله هو شراء كل ما يشاهده لزوجته السيدة رجاء، التي كان يعمل لها ألف حساب، فعندما أطلب منه أن يسافر معي، يقول لي: خذ الإذن أولاً من رجاء!  

كنا نجتمع دائماً مع أحمد رجب وعمر الشريف ومفيد فوزي. وأعتبر أنه من أكبر أخطائي، أنني لم أسجل هذه الحوارات الممتعة. ودائماً ما كان عمر الشريف يصر على دفع الحساب. وكان أنيس معتاد في رمضان.. على إقامة مائدة إفطار كبيرة يدعو إليها كل أصدقائه، وأذكر أنه بسبب أنيس منصور – وعن دون قصد منه – تقدمت باستقالتي من العمل في الآثار، فقد حدث أن قمنا بكشف مقابر العمال بناة الأهرام. وداخل إحدى المقابر، عثرنا على مجموعة تماثيل رائعة. وكانت السياحة في ذلك الوقت تعاني من ضربات الإرهاب، واتفق معي الوزير فاروق حسني على أن يقوم الرئيس حسني مبارك بالحضور إلى الموقع، والإعلان عن الكشف، وعمل دعاية ضخمة.. نواجه بها ضربات الإرهاب.  

وحدثت أنيس عن الكشف، وطلبت منه أن يحتفظ به سراً لحين الإعلان عنه. وعاهدني على ذلك، لكن تصادف أن نشرت الصحف خبر أنني سألقي محاضرة عن الاكتشافات الأثرية الجديدة، فظن أنيس أننا أعلنا عن الكشف، وبدأ يكتب عنه في عموده اليومي. أثارت كتاباته غيرة رئيس الآثار، وفي النهاية لم أجد سوى تقديم استقالتي. رحم الله أنيس منصور. 

عباس حواس 

أبي ومعلمي الأول.. الذي توفي وأنا في الثالثة عشرة. كان صاحب حضور عظيم، يملك الأرض الزراعية ويشرف على المزارعين. وكانت نصيحته لي ألا أضع إصبعي تحت ضرس أحد؛ بمعنى ألا تأخذ أي شيء (لا يخصك) من أحد.. ولو حتى هدية، ولا تطلب معروفاً من أحد، حتى لا يكون إصبعك تحت ضرسه. ولأنني ابنه الأكبر.. كنت أسافر معه إلى كل مكان، وقد اختار لي اسمي، لأنه كان له صديق في الجيش من سوريا اسمه زاهي. وفي رمضان كان يرسلني إلى كُتاب الشيخ يونس.. لحفظ القرآن الكريم، ويصطحبني معه إلى المضيفة – التي يجتمع بها كبار البلدة – للحديث في كل شيء.. من السياسة وحتى الزراعة. وعلى الرغم من مرور كل هذه العقود على وفاة أبي، رحمه الله، إلا أن صورته دائماً أمامي، وأفتقده كثيراً في رمضان. 

الأسطى عمران 

سائق السيارة الذي عمل معي وأنا مفتش للآثار، ثم مدير لمنطقة الأهرامات. كان الأسطى عمران يعمل معي ليل نهار؛ حيث كنت أحضر من منزلي في منتصف الليل.. للمرور على المواقع الأثرية، والتفتيش على الخفراء والحراس.. للتأكد من وجودهم. وكنا نذهب إلى الواحات البحرية ونعود في نفس اليوم. ولم أرَ الأسطى عمران – في يوم من الأيام – متذمراً من أحد. ولم يطلب في حياته إجازة، لذلك فقد ترك هذا الرجل العظيم سيرة عطرة لأولاده. لأننا جميعاً كنا نحبه، ونعلم إخلاصه وتفانيه في عمله، ولم أسمعه في يوم يشتكي من العمل أو يشكو أحداً.  

وفي رمضان، كنت أعيش في استراحة بجوار الهرم، وكان الأسطى عمران يأتي للإفطار معي في أيام متفرقة.. حتى لا أفطر بمفردي. إن اسم هذا الرجل مسطر في عالم الآثار بحروف من نور.. رغم عمله البسيط، لأن إخلاصه وحبه لعمله.. جعل منه إنسانا عظيم القيمة، أفتقده في كل رمضان. 

رمضان البدري 

جاء رمضان للعمل معي في منطقة الهرم.. وهو شاب صغير السن، تخرج حديثاً في كلية الآثار. وقد كنت – في ذلك الوقت – أقوم بالتدريس في بعض المعاهد السياحية. وكنت أطلب منه أن يأخذ الطلاب في رحلات ميدانية إلى المواقع الأثرية. واكتشفت أن كل الطلاب يعشقونه.. لأدبه وأخلاقه وعلمه. وكان يعمل معي في الحفائر، وعاش معي موسماً كاملاً في الواحات البحرية. وبعد ذلك وجدت أن رمضان يجب أن يسافر إلى الخارج.. ليكمل دراساته العليا، لذلك فعلت كل ما في وسعي لكي أحصل له على منحة في جامعة براون الأمريكية. وحصل رمضان بدري حسين – رحمه الله – على درجة الدكتوراه، وجاء للعمل معي في الآثار.  

وعندما تم تعييني وزيراً، اخترته لكي يكون الرجل الثاني في الوزارة.. رغم صغر سنه. وبعد أن ترك الوزارة، استطاع أن يحصل على وظيفة أستاذ بجامعة توبينجن بألمانيا. وترأس بعثتها للحفائر في سقارة، وحقق اكتشافات مهمة جداً. وعندما انقطع عن الحديث معي لمدة من الزمن، سألت عنه.. فعرفت أنه وقع فريسة للمرض العضال، الذي حاول أن يخفيه عني.  

بعدها تركنا، ورحل إلى جوار ربه.. لكننا سنظل نذكره دوما، ونفتقده في كل وقت وزمان. 

نقلاً عن «المصري اليوم« 

شارك هذه المقالة