عادل نعمان
الحكومة الرشيدة – في الدول الرشيدة – هي التي تتحرك دون توجيهات أو إيماءات، إلا أن المفهوم السائد عندنا؛ قد فهموه جيداً.. فأطاعوا ونفذوا؛ فكان ما نراه من تخبط واستهتار بأرواح الناس، حتى واجب العزاء للبسطاء قد تأخر، فأقاموا سرادقات العزاء على عجل. وفتحت الخزائن لصرف التعويضات على استحياء.
وفي الوقت الذي يبادر فيه السيد محافظ المنوفية – كغيره من السادة المحافظين – إلى التعازي في أنحاء المحافظة لأهلها.. صباح مساء، إلا أن هؤلاء القوم غير، والأمر.. في هذه الحالة بالذات، يحتاج إلى توجيه؛ لأن السادة المسؤولين «مكسوفين».. من هول اللقاء، وحرج العزاء، والبطحة كبيرة.. عجزوا عن سترها.
ودعني أؤكد أن هذا الحادث – الذي راح ضحيته تسع عشرة من بنات بريئات، يسعين على جنيهات قليلة.. لا تسد جوعاً ولا تشفي من بلاء، من كفر السنابسة محافظة المنوفية – تكرر على نفس الطريق في اليوم التالي. وسيعاود ذات المسلسل سيرته الأولى قريباً، وهو – بكل أسى – رقم في مسلسل.. متكرر منذ عقود؛ يموت من يموت، ويتشح بالسواد الأقارب والجيران، ويقيم أهالي الضحايا سرادقات العزاء.. يتلقون المواساة، وكلمات الصبر على فقدان فلذات أكبادهم.. في صبر وجلد.
وغداً – وبعد غد – سنكرر ما حدث.. وسط سواد حالك، وعويل نسوة مقهورات، وهموم رجال مغلوبين على أمرهم. وسننقل سرادقات العزاء إلى جهات أخرى، ونحمل أوجاعنا وهمنا، ودعاء اليتامى والثكالى.. على كل من تسبب في كوارث هذا الوطن، إلى يوم معلوم، ترفع فيه الأعمال، ويقف فيه الخصوم أمام القاضي العادل.. ليعيد الحقوق لأصحابها؛ الذين عجزوا عن محاسبة المسؤولين في دنياهم، ووقفت فيه الأجهزة الشعبية والرسمية، تجامل المقاولين والوزراء والمحافظين.. على حساب الحق والعدل، ودماء الغلابة البسطاء.
يحضرني السيد المتحدث الرسمي للسيد محافظ المنوفية، وقد انبرى – في نشاط يُحسد عليه – دفاعاً عن السيد المحافظ، ومبررات عدم مسارعته، وتواجده في مكان الحادث.. يلملم ما تبقى من أشلاء الصغار.. مع الأهالي، وتقديم واجب العزاء للأسر المنكوبة في وقتها، ولحظة الكارثة بعينها.
ولو كان السيد المحافظ يشعر بمرارة الحادث، لتوجه فور حدوثه إلى القرية، إلا أنه – والحق أقول – شعر أن الموقف أصعب من مواجهته وتداعياته، وحرج اللقاء. والأمر لا يقف عند السيد المحافظ – فهو جزء من منظومة، لا تعمل إلا بالزيت الحار – إلا أنها مسؤولية وزير النقل.. من فوق لتحت، ومن أولهم إلى آخرهم. والمسؤولية السياسية تطول الكل.. كبُر أو صغُر.
والتقارير تؤكد.. أن أكثر من سبعين في المائة من حوادث الطرق بسبب السائقين، وأن غالبيتهم يتعاطون المخدرات والمنشطات. ويتساءل الناس: لماذا يلجأ السائقون إلى المنشطات والمخدرات، وتجاوز الحمولة المقررة؟ هل لمواجهة الزيادة في سعر السولار؟ والمبالغة المفرطة في مصروفات ورسوم الطريق؟
وإذا كان التقرير يختصر الإهمال والتقصير.. الظاهر على الطرق التي يشملها الترميم، أو رفع الكفاءة بثلاثين في المائة فقط، ويوجزها في عدم وجود طرق بديلة ممهدة، أو علامات إشارية أو إنارة ليلية، فإن هذه النسبة المئوية كاملة.. مسؤولية الدولة؛ سواء السيطرة على السائق «المسطول»، أو محاسبة المشرف المهمل.. الذي ترك العمل للمقاول الفاسد ونام، أو الضرب على يد المهندس.. الذي لا يراقب الأداء والتنفيذ، أو محاسبة المسؤول الذي باع ضميره ووقع محاضر الاستلام، وكان الغلابة في بلادي ضحاياه، فإن كل هذا مسؤولية الدولة.. أولاً وأخيراً. وعليها مراجعة العقد الاجتماعي، والدستور.. الذي ينص على حماية المجتمع وأفراده، وحقه في الأمن والأمان.
وأؤكد أنه لو تمت مراجعة العقود مع المقاولين، لوجدنا هذه الاشتراطات.. موجودة في كراسات الشروط، وأن العقود تضمن بها الدولة سلامة مواطنيها، إلا أن هذا لا يتم تنفيذه على الواقع.. بسبب الفساد. أين المسؤول والمشرف في فترة التنفيذ؟ والأهم، أين المسؤول الذي وقّع على محاضر الاستلام.. دون رقابة أو متابعة طوال مدة التنفيذ، حتى يتم إصلاح الطرق في مدة تقل تماماً عن المدة المقررة؟!
وبالمناسبة، راجعوا حال الطرق التي تم تنفيذها في الفترة السابقة، فهي ليست أسعد حظاً من طريق المنوفية، أو الطريق الأوسطي، أو الدائري.
هذا الحادث المفجع.. لن يكون الأخير، وبعده سنقابل مئات الحوادث – الأكثر بشاعة أو الأقل منها – طالما نجامل المسؤولين.. على حساب الحق والعدل، وطالما نهمل مبدأً راسخاً – في كل الدول المتقدمة – وهو مبدأ المسؤولية السياسية، التي تدفع وزيراً يابانياً إلى الانتحار؛ إذا سقطت طائرة، أو خرج قطار من مساره، أو مات أبرياء في حادث على الطرق.
لا عزاء للحكومة الرشيدة، والصبر لأهالي الضحايا، ثم نتساءل: أين يا سادة حمرة الخجل؟!
«الدولة المدنية هي الحل»
نقلاً عن «المصري اليوم«